أدرك العلماء أن الإدارة ليست نظماً، وآليات عمل، وإجراءات فحسب، بل هي حاجة إلى معرفة كيفية التعامل مع البشر. من هنا تراكمت آلاف الأبحاث التي توغلت في النفس البشرية لمعرفة ماذا يحدث فيها في مواقف عدة في بيئات العمل.
ولأن نشوء علم الإدارة تزامن مع الثورة الصناعية التي انطلقت في بريطانيا مع اكتشاف المحركات البخارية، صارت هناك حاجة إلى تعلم كيف نحتوي العمال ونفهم دوافعهم، وانفعالاتهم، وأحاسيسهم وغيرها، ولهذا تكون علم النفس الإداري كفرع من فروع علم النفس الصناعي التنظيمي، غير أنه أصبح الآن أوسع من نطاق المعامل والمصانع، فصارت الشركات العابرة للقارات تحتاج إلى فهم تلك الجموع البشرية الهائلة التي تعمل في مرافقها.
وعليه فإن علم النفس الإداري يحاول تطبيق علم النفس السلوكي على شاغلي المناصب بشتى مستوياتها والمرؤوسين والعمال، ويسلط الضوء على التحديات النفسية التي تعترضهم.
وقد أسهم علم النفس الإداري في تقديم حلول وفهم أسباب ضغوطات العمل مثلاً، والسيطرة على السلوكيات النفسية الضارة للعاملين، وأسهم في رفع كفاءة الأداء، فالمرء عندما لا يعرف نفسه من خلال اختبارات الشخصية يصعب عليه تقبّل النقد الموجّه إليه من العاملين معه.
ما أكثر المسؤولين الذين يتجاهلون سهام نقد من حولهم! لأنهم يعتبرون أن شهادتهم مجروحة أو منحازة ضدهم، غير أن علم النفس الإداري صار يستعين باختبارات علمية موثوقة تقدم للفرد دليلاً على نقاط قوته ووضعه، أو تقدم وصفاً دقيقاً لشخصيته، ولذلك كثيراً ما نقول إن المرء لن يستطيع فهم ردود أفعال الآخرين تجاهه ما لم يفهم نفسه، وهذا ما يبرر أسباب عدم فهم نفور الموظفين من مسؤولهم الذي لم يدرك حتى الآن أنه يعاني من مشكلة مستأصلة في التواصل، أو عدم الإنصات، أو كثرة المقاطعات غير المبررة. وربما لم يأخذ اختباراً يؤكد له أنه يعاني فرط الحركة أو تشتت الانتباه، أو ربما يعاني من اكتئاب حاد يتطلب تدخلاً نفسياً.
بعض المسؤولين لم يتسنَّ له الحظ لمعرفة أنه يعاني من مشكلة نفسية مرتبطة في فوبيا اتخاذ القرار. وعلى النقيض قد لا يعلم هذا المسؤول أنه إنسان عبقري في إبداعه، والمبدعون يفكرون بطريقة غير تقليدية لا يستوعبها الناس العاديون. وربما يتمتع بمقدرة خارقة على التفكير السريع، أو قدرات رياضية، أو مقدرة على التفكير التحليلي أو النقدي العميق لا يمكن أن يجاريه من حوله.
ولهذا نقول إن علم النفس الإداري قدم لنا طوق النجاة، حيث أصبح يساعدنا على فهم ذواتنا ثم فهم من حولنا، وهذا ما يجعله يقدم حلولاً عديدة، منها حلول لإدارة التوتر، والتعامل مع الشخصيات الصعبة، وفهم الاضطرابات السلوكية العارضة والمزمنة في فريق العمل. علم النفس الإداري يمكننا كذلك من معرفة كيفية حل النزاعات التي تدور حول عقدة نفسية نحاول تجنب التصادم معها أملاً في إنجاز مهام العمل بأقل الأضرار الممكنة.
ومن أمثلة علم النفس الإداري، التي أنقذتنا نظرية «إكس وإي»، قدمها الأستاذ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، دوغلاس ماكغريغوري عام 1960، التي توصلت إلى أن هناك نهجين إداريين، أحدهما تطغى عليه النظرة التشاؤمية للعاملين، الذين ينتهى بهم المطاف إلى وقوع نتائج سيئة بالفعل. والنهج الآخر يتحلى بالإيجابية التي سرعان ما يحصلون على ثمراتها بتحقيق نتائج أفضل.
ربما يشعر البعض أن تلك السلوكيات التي كشفها علم النفس الإداري بأنها بديهية، غير أنها في الواقع أنقذت ملايين البشر بعدما عرفوا كيفية التعامل مع المحيطين بهم.