آخبار عاجل

طبق الجيران .. مرسال المحبة .. بقلم: محمد مصطفى الخياط

29 - 03 - 2024 1:13 182

رمضان.. الشهر الذي تتحلق فيه الأسرة حول مائدة تشكو الوحدة طوال العام وتكثر فيه دعوات الإفطار والسحور لتجري في قنوات التواصل الاجتماعي المتشققة جفافًا مياه المودة وتهب عليها نسائم المحبة. الشهر الذي يجمع الغائبين بعد طول بعاد. الشهر الذي ينظم الارتباطات الاجتماعية. الشهر الذي تحلو فيه سهرات دورات كرة القدم. الشهر الذي تتنافس فيه الأحياء في فنون تزيين الشوارع وواجهات العمارات بالفوانيس وشرائط الزينة الملونة المضيئة. الشهر الذي ينزل فيه المواطنون للشوارع قُبيل أذان المغرب لتوزيع الماء والعصير وحفنات التمر، الشهر الذي يكثر فيه التكافل ويجد كل شخص ما يكفيه من طعام وشراب.
تربي جيلي على عادات وتقاليد أنكرتها المدن ودهسها الزحام. شارف رمضان على الانقضاء، وما جاء ابن الجيران ومعه طبق يُغطيه منديل قطن محلاوي ترقد تحته أشهى قطع المكرونة باللبن والكنافة والقطايف والبقلاوة المحشوة بكسر الفول السوداني المحمص المخلوط بالزبيب والسكر وجوز الهند، قائلاً بصوت طفولي (أمي بتسلم عليكي وبتقولك كل سنة وأنتم طيبين)، تتلقاه ربة البيت هاشة باشة مع سيل دعوات من قبيل (تسلم إيدين حبيبتي.. سلم لي عليها، وربنا يديم المحبة، ويترد لكم في الأفراح، وعقبال شربات نجاحك في الابتدائية يا حبيبي، ولا نتحرم منكم أبدًا)، يليها فاصل محايلة يَحسمه قَسَم الجارة (ميت يمين ما تمشي قبل ما تاخد حلاوتك)، وعادة لا تخرج الحلاوة عن ثمرة فاكهة أو ورقة نقدية جديدة من فئة الخمس قروش يزينها رسم نفرتاري أو عشرة قروش برسم أبو الهول حارسًا الأهرامات، يشتري بها الولد بمب وصواريخ.
ولأن كله سلف ودين، لا يمر يوم أو يومين حتى تعود الابنة الصغرى للجارة بالطبق في الاتجاه المعاكس محملاً بنفحات من أطايب ما صنعت بإمكانات محلية بسيطة ترسم ابتسامات الرضا والقناعة على الوجوه المتحلقة حول الطبلية في الريف أو الترابيزة (المائدة) في البندر، من دون أن ترهق كاهل رب الأسرة، ويتكرر مشهد الختام والقَسَم وتشتري البنوتة لبان ونوجا وعروسة بفستان كاروهات.
كان طبق الجيران مرسال المحبة والمودة بين عائلات تعيش كأسرة واحدة كبيرة تتوزع في بيوت متجاورة نادرًا ما تُغلق أبوابها، عائلات لم تدركها ثقافة الشقق الشرانق والمجمعات السكنية (كمباوند) المحبوسة خلف الأسوار الإسمنتية، منتجة أجيال مقطوعة الصلة بمن حولها.
كان طبق الجيران شهادة شطارة بنت الجيران، وإن المحشي من ايديها عجب، وإن أبوها ما يأكل صيادية سمك غير من ايديها، تلميحات تمررها الأم لجاراتها عبر إطلالة النوافذ في العصاري قبل أن تخطفهن عناكب مواقع التواصل الاجتماعي وتحبسهن في قمقم بلا قرار، لتميل الأم في المساء على ابنها هامسة بإن البنت ما تتعوض، وزيتنا في دقيقنا، وناس من توبنا، وربنا يتمم بخير، (وزغرودة حلوة رنت في بيتنا).
 كان طبق الجيران رابط صلة الأرحام بين بيوت الحارة والشارع الكفيل بستر المحتاج وحفظ كرامة سابع جار جارَ عليه الزمن، كان همزة الوصل في حكايات وقصص الود الإنساني العفوي الطازج طزاجة العيش المرحرح مع شهقة خروجه من عين فرن بلدي تتمدد رائحته مع رغيفين يحملهم المحروس الصغير إلى بيت أم دميانة الواقع في آخر الشارع، من باب ثقافة (ده حتى ولا يبقى له طعم من غيركم، وصحة وعافية.. ومطرح ما يسري يمري، والله أكثر من الأخوات يا حبيبتي.. وربنا يديم المعروف، ويا حبيبتي عرفت إنكم بتخبزوا قلت أشوى السمكتين دول بعد ما تخلصوا مع فطيرتين ذرة..).
أين ذهب كل هذا .. أين ذهب طبق الجيران.. 


 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved