ساد حتى عهد قريب اعتقاد شائع بأن المرء بحاجة إلى ذكاء بشري «IQ» ليتفوق في عمله. سرعان ما تبدد ذلك الرأي مع بزوغ نجم ما أطلق عليه بالذكاء العاطفي «EI». اكتشف العلماء أنك حتى تتعامل بمهارة وسلاسة وحكمة مع من حولك ومع مشاعرك، فلا بد أن يكون لديك شيء آخر غير الذكاء العقلي، وهو الذكاء العاطفي الذي يقصد به قدرة الإنسان على إدراك مشاعره، واستيعاب ما يختلج في خواطر من حوله، والأهم أن يحسن إدارتها بغية تحقيق هدف بعينه.
وانبرى ثلة من الباحثين لقياس ذلك، فتمكنوا عبر مقاييس علمية من قياس قدرة القيادي على التفوق في عمله إذا ما كان يتحلى بدرجة مرتفعة من الذكاء العاطفي. والمفارقة أنه عندما قاس العلماء الذكاء العقلي «IQ»، عند الرؤساء الأمريكيين وجدوه في حدود المعدل الطبيعي وهو معدل غير مرتفع. وهذا دليل على أن أموراً أخرى ينبغي الالتفات إليها، فتبين أن في طليعتها الذكاء العاطفي. وتنبع أهميته من أنه يمكن صاحبه من تحديد نوعية المشاعر التي تنتابه والقدرة على تذليلها لخدمة أهداف مرجوة. قد يبدو كلاماً بديهياً، لكن واقع الحال يشير إلى أن العديد من الأذكياء عقلياً يفتقرون إلى مرونة ورشاقة الذكاء العاطفي الذي يجعل المرء يدخل إلى حقل ألغام من النقاشات العقيمة أو الملاسنات ثم يخرج منها بأقل الأضرار لأنه كان واعياً لما يختلج بالوجدان من مشاعر. بعبارة أخرى، الذكي عاطفياً يحسن تلطيف الأجواء حينما يحتدم النقاش بين طرفين كانا على شفير السقوط في هاوية التجريح.
وقد أطلق مصطلح «الذكاء العاطفي» لأول مرة في بحث لأستاذ علم النفس السريري الطبيب مايكل بيلدوك عام 1964م، غير أن من أشهر المصطلح على طريقة التسويق الأمريكية (إن جاز التعبير) كان البروفيسور دانيال غولمان، في كتابه الذي أطلقه عام 1995 ويحمل العنوان نفسه.
وبعد أن تكون لدى العلماء أدوات علمية (استبانات)، صار في مقدورهم استخدامها في اختبارات التقديم الوظيفي. حيث إن من يتحلى بالذكاء العاطفي يمكنه التكيف بسهولة مع العاملين معه. كما أن قدرته القيادية تصبح أسهل مقارنة مع من يفتقرون إلى ذلك أو الصِداميين بطبعهم. مثلما يقيس علم النفس الشخصيات، فإنه قد كشف لنا إمكانية معرفة الجانب الاجتماعي أو العاطفي، فصارت أمام إدارات الموارد البشرية أداة جديدة يمكن أن «يفلتروا» أو يصفوا من خلالها مئات أو آلاف المتقدمين لمقاعد وظيفية محدودة. وإن كان لدي تحفظ على الاختبارات الورقية.
والذكاء العاطفي علم مهم جداً، لأنه يجعلنا ندرك ما نمر فيه من مشاعر وتداعياتها، فيدفعنا للتأمل قبل الإقدام على حماقة لا تحمد عقباها. مثل فورة الغضب في غير موضعها المناسب، أو الخصام أو العداء المفرط. ولذلك قيل لا تتخذ قراراً وأنت في قمة الغضب، ولا تطلق وعوداً في لحظة السعادة الغامرة. هذه المعادلة يفهمها الذكي عاطفياً لأنه يدرك تداعيات الأمور.
ومما توصل إليه العلماء من علامات الذكاء العاطفي، القدرة على الإنصات الجيد، وفهم إيماءات المتحدثين الجسدية والتعاطف معها. والذكي عاطفياً يعي مواطن قوته وضعفه (الوعي الذاتي)، ولديه قدرة على التعامل مع المشكلات والسعي نحو وضع حلول والتركيز عليها بدلاً من إلقاء اللائمة على الآخرين.
ولذلك يفلح الأذكياء عاطفياً في توجيه عواطفهم نحو الاتجاه الصحيح الذي يخدمهم أو يخدم الموقف أو المأزق الذي يواجهونه مع الآخرين. ولهذا تجد الذكي يتعاطف معه كل من حوله لأنه في الأساس يقدر مشاعرهم. هو كالبلسم الذي يلطف الجروح والأجواء وهذا ما يجعل المسؤولين يحرصون على وجوده في إدارات وفرق عمل تتطلب تلك السمات التي أضحت أكثر أهمية من الذكاء العقلي