يبدو أن مقال الأسبوع الماضي (طبق الجيران.. مرسال المحبة) قد أثار شجون الكثيرين من السادة القراء، أعاد ذكريات ماضٍ وضع البعد الإنساني في صدارة المشهد الاجتماعي ورسخ روابطه من خلال تبادل الأطباق بين الجيران في المناسبات وغيرها. عادة بسيطة ومردود كبير.
ارتبط رمضان بأطباق حلويات ترجع ذكرياتها إلى الدولة الفاطمية في مصر، ثم انتقلت بعدها إلى ربوع العالم العربي حيث وضعت كل دولة بصمتها فانشطر الصنف الواحد إلى عدة أصناف فرعية تختلف في الشكل والمحتويات وتتفق في الأصل، ولنا في الكُنافةِ أسوة حسنة.
ولم يكن طبق الجيران وحده اللاعب الرئيسي في توطيد الروابط الاجتماعية وإزكاء مشاعر الإخاء والتكافل وأن لا طعم للأكل من دون مشاركة الجيران في الفرحَة والطَعمَ، كان هناك –ومازال- سَبَتْ البلكونة الخوص المتدلي في حبل، بين طوابق البناية الواحدة؛ رباط المودة و(أسانسير) المحبة بين الجيران.
تُرخي ربة البيت حبل السَبَتْ إلى مستوى بلكونة جارتها، وفي وقت لم يكن التليفون المحمول قد ظهر بعد، كان سماع رنتين للتليفون الأرضي إشارة بين الجارات وبعضهن البعض، فلا يكاد ينقطع الرنين حتى تضع الجارة في الدور المقصود إسدال الصلاة عليها وتهرع إلى البلكونة مادة ذراعيها نحو السبت المتدلي تغمرها الفرحة بالهدية، تتبادل على إثرها مع جارتها نظرات شكر وامتنان وتمتمات شفاه لا تسمعها الآذان وتفهمها العيون والقلوب، وكما نزل السَبت محملاً بالخيرات تتكرر الإشارات في الاتجاه المعاكس، لينزل خفيفًا ويصعد ثقيلاً.
أيضًا شارك مَشبَك الغسيل في التواصل المشفر بين سكان الأدوار المتقابلة في الأحياء الشعبية، تُلقيه الجارة عبر الحارة الضيقة إلى جارتها فتخرج إليها، أو تقف قبالتها دون تخطي باب البلكونة إن كانت سافرة شعر الرأس.
وإلى جانب دوره الاجتماعي يقوم سبت البلكونة بدور هام في عملية التسوق اليومي ابتداءً من جريدة الصباح والفول المدمس بالزيت الحار إلى شراء الخضروات والفاكهة على إيقاع نداءات شجية (الفول اللوز، لبن.. حليب يا قشطة، حَمَار وحلاوة)، وفي الجوار يتهادى صوت الشيخ محمود علي البنا من ورشة نجارة الأسطى زين، وشدو محمد قنديل (يا حلو صبح/ يا حلو طل.. يا حلو صبح/ نهارنا فل) مقرونة بلوعة عليوة الفرارجي كلما تطلع إلى الشباك المغلق في البيت المجاور، وشجن تتر برنامج (همسة عتاب)، لتصنع كل هذه المفردات لوحة حية تضج بالحيوية والتفاؤل.
ولم يقتصر دور السَبت في توطيد العلاقات وحسب، بل وفي الإغاثة التموينية لست البيت التي تكتشف أثناء انهماكها في الطبخ أنها في حاجة إلى بصلتين لزوم حشو الحمام، أو لمونتين وشوية ملح، أو طقم الملاعق والشوك الفضية لزوم عزومة أهل العريس من باب الناس لبعضها، وفرحكم فرحنا، ويا حبيبتي البيت بيتك.. نفتح الشقتين على بعض ونعمل هم زفة ما حصلت.. دول يا ما لعبوا مع بعض ع السلم.
عادات وتقاليد تؤصل للاكتفاء الذاتي وتجنب الإرهاق المادي مع رصيد هائل من الرضا، يرى بصلة المحب خروف، وأن استبدال صوان الفرح الباهظ التكاليف بخطين نور ملون على واجهة البيت ويطلعوا مع السلم حتى باب العروسة المفتوح على صالة الجيران كفيلين بملء الصدور بالانشراح والعيون بدموع الفرح بالأولاد والبنات.
لمثل هؤلاء غنى عبد الحليم حافظ (خسارة خسارة فراقك يا جارة. عينيا بتبكي عليكي بمرارة)، وتسلطنت داليدا مع كلمات صلاح جاهين وألحان سمير حبيب وغنت (أحسن ناس.. أدينا بندردش.. ورانا إيه؟ بنحكي ونفرفش.. ورانا إيه.. والنيل بيضحك ويغني.. فاكرني وبيسأل عني).
حقًا.. أحسن ناس..