في أوقات الأحداث الساخنة والصراعات المشتعلة تطل التنظيمات المتطرفة والتيارات المؤدلجة برأسها، وتحاول الاصطياد في الماء العكر، وترفع الشعارات البراقة والمزايدات لتحقيق مكاسبها خاصة، وتسعى بكل وسيلة إلى فرض أجنداتها الخاصة وتجيير الأحداث لمصلحتها، محاولة استغلال مشاعر الناس والتأثير فيهم.
ولذلك تكثر في هذه الأوقات ظاهرة الاستقطاب والتخندق والاجتهادات الفردية، وتصبح أدوات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي أرضاً خصبة لجذب هذا أو التأثير في ذلك، وتكثر الشائعات والهجمات التحريضية ضد الدول والمجتمعات.
وفي خضم هذه الأحداث تحتاج المجتمعات حاجة ماسة إلى التمسك بثوابتها الوطنية، التي هي جدار منيع ضد أي مخططات أو ممارسات تستهدفها، فتكون متوحدة متلاحمة على قلب رجل واحد، تسد الطريق أمام أي محرض أو مغرض يحاول بث الفتن أو زعزعة الاستقرار أو الترويج لأجنداته الخاصة، ويأتي على رأس هذه الثوابت الوطنية الالتفاف حول القيادة الحكيمة، والولاء لها، والانتماء إليها، والثقة بها.
والسير على رؤيتها وانتهاج نهجها في التعامل مع الأحداث، وعدم الافتيات عليها في شيء، وهو المنهج القرآني وما ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليه، قال الله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} أي أن ولاة الأمور يستخرجون حقائق هذه المسائل والقضايا، وما ينبغي فيها من التدبير الصحيح، لعلمهم بها.
واطلاعهم على بواطنها، ومعرفتهم بما يصلح لها وما لا يصلح، بخلاف غيرهم، من الذين لا يدركون حقائق هذه الأمور وبواطنها حق الإدراك، ولا يعلمون ما يعتريها من مصالح ومفاسد، ولذلك يسارعون في نشر هذا الرأي، ودعم ذاك التوجه، والتخندق مع هذا التنظيم، والاغترار بذلك الحزب، فيقعون في فخاخ المضللين والمغرين، وتنحرف بوصلتهم ثمانين درجة عن بوصلة قيادتهم ووطنهم.
ومن الثوابت الوطنية كذلك التمسك بالوحدة والتلاحم، ونبذ الفرقة والانقسام، والمحافظة على الأمن والاستقرار اللذين هما جوهر التنمية والتقدم والازدهار، إيماناً بأن المصير واحد، وأن سفينة الوطن تُقِلُّ الجميع في بحور هذه الحياة وأحداثها ومستجداتها، وأن المحافظة عليها من الغرق مسؤولية مشتركة، لتصل بسلام إلى بر الأمان والازدهار، ومتى ترسخت هذه القيم في نفوس الأفراد تمسكوا بسلامة سفينتهم من أي أمواج أياً كان مصدرها.
فإن ذلك كله يمثل جداراً منيعاً ضد أي صوت محرض يسعى لشق الصفوف، ونشر الفتن والفوضى، والعقلاء لا ينساقون إلى أي دعوة تحمل هذا الطابع البغيض، مهما رفعت من شعارات أو مبررات، لأن محصلة الاستجابة للأصوات المحرضة معروفة معلومة، وهي خلق سلسلة جديدة من الأزمات الداخلية، التي قد تزداد وتيرتها شدة وسخونة، وتصبح بركاناً يقذف الجميع بحممه الملتهبة، وما جرى في السنوات الأخيرة في بعض المجتمعات ويجري لهو أكبر دليل على ذلك، ولا تزال بعضها تعاني الصراعات المشتعلة التي لم تنطفئ حتى يومنا هذا.
ومن الثوابت الوطنية كذلك التمسك بقيم الوعي الرشيد والمعرفة الصحيحة والتلقي الآمن للمعلومات والأخبار والاعتماد الصحيح على المصادر الموثوق بها، وتربية النفس والأبناء على ذلك، فلا تتسلل المعلومات المغلوطة إلى العقول، ولا تخترق المواقع المشبوهة الأفكار والنفوس، ولا يجد المشبوهون آذاناً صاغية لهم، فيرجعون بخفي حنين خائبين مدحورين، وخاصة في واقعنا المعاصر، الذي أضحت فيه الأجهزة الذكية جزءاً لا يتجزأ من واقع الأفراد.
وأصبحت ثورة المعلومات والذكاء الاصطناعي من أبرز سمات هذا العصر، مع اشتداد التنافس على نشر مختلف المحتويات عبر منصات التواصل، بشكل لم يسبق له مثيل، ما يضع مسؤولية كبيرة على عاتق كل فرد، في أن يسخر كل ذلك أولاً في خدمة وطنه، وفي أن يكون على حذر تام من أي حسابات أو محتويات تستهدف وطنه وقيادته ومجتمعه.
إن التمسك بالثوابت الوطنية وبالأخص في أوقات التحديات والأزمات جدار منيع وحصن متين، يصون المجتمعات من عبث العابثين وكيد المغرضين، لتبقى متماسكة متلاحمة، لا تهزها محن، ولا تميل بها فتن.