آخبار عاجل

أكواب ورقية.. بقلم: محمد مصطفى الخياط

12 - 07 - 2024 11:00 70

 

الراوي : لم يكن من المخطط تقمص دور الراوي .. لكن شيئًا ما جعلني انتبه إلى تلك السيدة التي عادة ما تتخذ كل ليلة موضعًا بعينه من رصيف النادي الاجتماعي محلاً للانتظار .. يظنها كل من يراها أول مرة أنها تنتظر سيارة أو باص تستقلها إلى حيث تريد .. ويعتقد من رآها أكثر من مرة أنها تنتظر خطيبها .. ويعرف كل من اعتاد رؤيتها أنها تنتظر رجلاً .. أي رجل.
ثمة أسباب خفية دفعتني لتسجيل المشهد إذ كبح شابٌ جماح سيارته على عجل فأصدرت الإطارات صوتًا لافتًا جعل الكثيرين ينظرون نحوه بعد ما وقف غير بعيد من السيدة .. ثم تكرر معه ما وقع مع غيره، بداية من استطلاع نية وحتى فتحها باب السيارة بوجه مشرق ليمضيا معًا .. لأسباب مجهولة داخلتني شكوك .. ووجدتني أسير خلفهما دون أن ينتبها .. وعندما حان لي الاطلاع على جوانب من ماضيهما دخلت غير متوجس .. حتى وقع ما وقع أمام عينيي وأنا أقف عاجزًا، لا حول لي ولا قوة، كمن يشاهد فيلمًا سينمائيًا تسير نهايته إلى نهاية لا يرغبها بينما هو عاجز كل العجز عن التدخل .. فلم أجد بُدًا من مشاركة الآخرين ما شاهدت وعرفت علهم يفيدونني .. والآن دعونا نبدأ القصة.
هدئ من سرعته على عجل وهو يطفئ  ويضئ مصابيح السيارة ثلاث مرات ملاحقة ثم وقف على مسافة لا تتجاوز العشرة أمتار من السيدة، ضغط مفتاح الانتظار فغمزت الأنوار الجانبية بلون أصفر متوهج، بهدوء راح يرمق المشهد خلفه من المرآة الأمامية المستطيلة، تمرق السيارات عن يساره بسرعة عالية، لا تلبث أبواقها تعوي عاليًا حين توازيه ثم تضمحل وتنداح في تتابع متوالي كلما ابتعدت حتى تختفي عن ناظريه، نظرت السيدة يمينًا ويسارا، وبحركة محترفة رفعت خصلة شعرها بيسراها سمحت لعينان مُدربتان استطلاع الشارع وتقيم الموقف، أدركت من تعلق عينيه بالمرآة أنه يبحث عن أنثى، صقلت الخبرة مهارات الاستطلاع لديها، تعلمت كيف تُفَرِقَ بين العابر والزبون، الأول تائهة عيناه ومشغولتان بمشاكل الحياة، والزبون يتقمص دور كلب سلوقي يتشمم رائحة الأنثى ويقتفي أثرها، متجاهلاً –ولو إلى حين- مشاغل الحياة.
تَصنَعَتْ إخراج هاتفها المحمول من حقيبة يدها، فداس بنزين من وضع الثبات ارتفع معه هدير المحرك، كأنما يستحثها على اتخاذ قرار، لكل مهنة لغتها ومفرداتها، وعلى أهل المهنة اكتساب مهارات التعلم بسرعة وفك الشفرات دون خطأ واحد. اقتربت بخطى واثقة ثم مالت على الزجاج وفحصت الكرسي الخلفي للسيارة بعين قرصها غدر الإنسان مرارًا، فوجدته خاليًا، شجعتها ابتسامة القبول على جانب فمه ففتحت الباب وانزلقت إلى الكرسي المجاور في غنج ظاهر هبط له قلبه، رغم أنفه انزلقت عيناه على جغرافيا استوائية لم تترك تفصيلة في أطلس إلا وحاكتها؛ هضاب وتلال، سفوح ووديان، أنهار وخلجان، صخور ورمال، رسم الفستان الضيق خارطة دقيقة لخصر بين النحافة والامتلاء، وساقين عُجنا بماء الجِن، ثم صُبا في قالبين بديعين. 
(..كام؟)، من دون مقدمات ولا مجاملات سألها بصوت جاف كمن يسأل مندوب مبيعات لا يرغب في بضاعته، (ألف ..)، قالت بهدوء الواثق الملتزم بتسعيرة جبرية، قطب حاجبيه، وغمغم بصوت متبرم يشكو غلاء الأسعار من دون مبرر (كثير .. كثير قوي)، رفعت حاجبًا وخفضت الآخر وعقبت (شكلك أول مرة ..!!). نظر نحوها شزرًا والشرر يتطاير من عينيه، كمن أحس بإهانة أصابت رجولته في مقتل، لجم لسانه في اللحظة الأخيرة وبلع كارهًا وصلة ردح كاد يسددها نحوها كطلقة رصاص. أحست بصهد نيران الغضب في احمرار مقلتي عينيه الرماديتين، فلجأت إلى استراتيجية ترك منفذ هروب للطريدة بأن فتحت حقيبة يدها وتصنعت الانشغال بالبحث عن شيء ما، مفسحة له مجال التنفيس.
(خمسمائة جنيه.. وإذا عجبك)، قالها بصوت كله حشرجة وضيق، نظرت نحوه وفي عينيها إغراء يكتسح رمال رجولته المبعثرة على شاطئ العوز، وبمهارة قطة تعرف كيف تنقل فريستها من أقصي القطب الشمالي إلى خط الاستواء في لحظة قالت له، (وعلى إيه .. خليها علينا .. اعتبره عربون محبة ..)، ثم وهي تمد يدها البضة نحوه بسيجارة ملغومة وفكين يلوكان مضغة لبان برقاعة سألته (بتدخن ..)، ثم استدركت وهي تمرر السيجارة على شفته العليا وتغمز (شكلك بتدخن ..)، ثم أطلقت ضحكة ماجنة.
أيقنت من رجفة يديه أن عامود دخان كثيف اكتسحه من كعب قدمه حتى ذروة نافوخه مُخَلفًا بداخله أعاصير الرغبة، وأنها دخلت دماغه بعد ما أصابت فيه مقتلاً، وأنه لن يتركها تمضي دون أن يقضي منها وتره ولو كلفه ذلك ضعف ما طلبت، لكنه سرعان ما رفع رأسًا احمر جلدها، وجحظت عيناه حتى كادتا تنفجران، (خلاص.. سبعمائة، وعليا النعمة ولا جنيه زيادة)، قال وهو ينفث آخر نفس في سيجارته، ويلقيها بعيدًا بطرف إصبعه السبابة، في يأس مُحاصر لا يعرف كيف يهرب.
أطلقت ضحكة أخرى لا تقل عن سابقتها في المجون زلزلت آخر ما بقى لديه من ثبات، ثم قالت من بين ضحكتها المتقطعة (ومالك كده خايف.. زي ما تكون ها تقع في البحر..)، ثم وهي تشير إشارة لها معنى وتغمز بعينيها (دول ما جابوش ثمن اثنين كيلو لحمة ..) .. ثم أطلقت قهقهة أتت على آخر حصونه ونثرت ريش عشه الهش في فضاء الرغبة الملتاث، فصار أثرًا بعد عين، ثم أردفت غامزة بعينها اليمنى (تؤمر.. يا للا بينا).
مضى في طريقه مشوش الذهن مشغول البال، ليست أول امرأة يقابلها، لكنها أول من زلزل كيانه ولعب به، حاول استرجاع رباطة جأشه والسيطرة على توتره وألا ينعكس ذلك سلبًا على ما نسجه من أحلام ليلة أعد لها طويلاً وانتظرها بفارغ الصبر، مد ذراعه نحو تابلوه السيارة وأخرج علبة مستديرة بحجم علبة الورنيش، نزع غطائها المحكم وأخرج بين إصبعيه السبابة والإبهام حبة في حجم حبة الحمص، اذدردها مع جرعة ماء، وحاول الاندماج في الطريق.
أدركت بفطنتها أن عليها عبء إزالة توتره، علمتها الأيام أن الزبون الذي يبحث عنها وعن أمثالها لقضاء نزوة يبحث في الوقت نفسه عن السعادة، والسعادة مدينة كبيرة لها ألف ألف باب، فيها الصعلوك والأمير، وفيها الشحاذ والغني، وفيها الشاب والشيخ، وفيها الناسك والعاصي، وكلهم يسعى للسعادة بطريقته.
قصد طريق المطار، ثم عرج يمينًا، بدا الطريق بغياب ضوء الكشافات موحشًا مُقبضًا للصدر، طردًا للتوتر استرجعت ليال كابدت فيها هواجس جمة وكاد فيها الخوف أن يقتلها، وفي كل مرة كانت تتمتم "جت سليمة .. اللهم اخزيك يا شيطان".
كما أرجعت طول فترة انقباض صدرها إلى تلك الكوابيس التي تطاردها من آن لآخر، ترى نفسها واقفة في وسط قنطرة شاهقة الارتفاع من دون أجناب تمنحها الأمان وتحتها نهر عظيم تهدر أمواجه ولا يبين له شاطئ، تكاد تفقد توازنها على الأرضية الرخوة، فيجمدها الخوف في مكانها مُدغدغًا مفاصل قدميها فلا تقوى على الوقوف، ثم فجأة وبدون مقدمات يغمر الفضاء صوت موسيقى عالية بنغمات أغنية سعاد حسني "بانو بانو"، في فيلم شفيقة ومتولى، لا تلبث بعدها سعاد تخرج من قاع النهر بفستان الغازية وشعرها المسبل ونظرة عينيها الزائغتين بين الحزن والرغبة في الانتقام، وتظل سعاد تصعد بجسدها العملاق حتى تحاذي القنطرة وتمد ذراعيها نحوها وتلتقطها ثم تغوص بعيدًا، في هذه اللحظة بالتحديد تستيقظ مفزوعة يغسلها العرق لا تكاد تلتقط أنفاسها.
استعاذت من الشيطان الرجيم في سرها، وبسملت عدة مرات حتى نسيت الرجل إلى جوارها، نظرت نحوه فوجدته مشغولاً بالطريق يناور بالسيارة على طريق ترابي ملئ بالحفر، كانت تميل للأمام والأجناب كأنما تركب جمل، همت بإلقاء تعليق جنسي يلطف من كآبة الطريق، ثم تراجعت بعد ما فسرت على ذبالة ضوء القمر خيالات كثبان رملية على الجانبين، تذكرت يوم صحبها رجل ذات مرة إلى خرابة مهجورة في صحراء المدينة أرادها مسرحًا للقاء، فما كان منها إلا أن طاحت فيه بكل ما فيها من قوة، ولم تهدأ إلا بعد أن غادرا وأجزل لها العطاء من دون أن يمسها، وذلك الرجل الذي اكتشفت في نهاية السهرة أنه لا يملك ربع ما اتفقا عليه من مال، وإزاء تذمرها وارتفاع صوتها أعطاها ساعة يده، فأخذتها وانصرفت وأعطتها لأول عامل نظافة رأته في الشارع، فما كان من الأخير إلا أن أخذ يدعو للسيدة (بتاعة ربنا)، وآخر باعها لآخرين وهددها بتشويه وجهها بماء النار إن اعترضت، وغيرهم وغيرهم كثيرين، كم تحمد الله على نجاتها في كل مرة، وتعتزم صادقة أن تترك "مهنة لا تخلو من أولاد الحرام"، على حد قولها، لكنها لا تلبث تعود.
(تقصدي مين بأولاد الحرام)، باغتها سؤال الرجل، يبدو أنها اندمجت في ذكرياتها وتحدثت بصوت مسموع دون أن تدري، ارتبكت وأجابته،
-    أبدًا .. يظهر إني سرحت !!
عقب بصوت ملؤه الشك، وإن بدا منه أنه صار أكثر هدوءً عما كان،
-    سرحتي ولا سوء الظن اشتغل !
أجابت باقتضاب
-    سرحت ..
-    ....
ثم أردفت مستفسرة،
-    تقصد إيه بسوء الظن؟
أجاب وهو يشوح بذراعه السمراء، فانتبهت إلى عضلاته المفتولة
-    آكل حقك مثلاً؟!
نظرت نحوه وقالت صادقة
-    مش باين عليك
فأسرع بلهجة مسرحية
-    حد الله بيني وبين الحرام !!
لم تملك نفسها، وانفجرت في الضحك بشكل هستيري أخفت معه وجهها بكفيها، فَهَمَ يستفسر منها وهو ينظر نحوها مغتاظًا، ثم استوعب تناقض الموقف والتعليق، فبادلها ضحكًا بضحك، ثم قال من بين ضحكه العالي، وهو لا يكاد ينطق كلمتين في كل مرة،
-    ولو .. كله إلا الحقوق .. حقك تاخديه على داير مليم .. ده حلالك ..
فعلقت وهي لا تزال على حالها من الضحك
-    قصدك كله إلا عرق الولايا..
ثم انفجرا في ضحك صاف أزاح وكنس كل ما علق في نفسيهما من كدر وهموم، كان من الواضح أنه تجاوز ارتباكه السابق، ليس بفعل تلك الحبة التي تناولها فقط، بل وبفعل قفشاتها أيضًا، وأنها "بنت نكتة" كما وصفها.
-    .....
دائمًا ما تلوم نفسها وتهز رأسها تأنيبًا، تشعر أنها تكتسب خبرة يومًا بعد يوم، وهذا حال كل من له مهنة، اللهم إلا من كان صعب التعلُم، أما اللوم والتأنيب فمردهما إلى ذلك الخجل الذي يعتريها إن سألها أحد، أو سألت نفسها يومًا، وكثيرًا ما تسأل، "شغلتك إيه؟"، حتى عندما أقنعت نفسها بذلك الرد الذي تجيب به كل من يسألها بعفوية؛ "اخصائية نفسية".
الراوي: أما سبب اختيارها مهنة "اخصائية نفسية"، فيرجع إلى قناعتها إلى أن كل من قابلتهم من الرجال غالبًا ما كانوا في أزمة نفسية، ربما ديون، وربما بسبب عمل، أو زوجة، أو أولاد، ولو حتى جيران، المهم أنها لم تقابل شخصًا، أو على الأقل لا تذكر أنها قابلت رجلاً، لم يفض لها بأوجاعه النفسية، وغالبًا ما تأتي تلك الفضفضة بعد ما يقضي وتره منها، فيتنحي عنها ويسند ظهره العاري إلى السرير، ثم يتناول علبة سجائره ويشعل واحدة، عادة ما تكون ملغومة بفص حشيش أو صاروخ بانجو، ومع تصاعد الدخان الأزرق واسترخاء خلايا الجسم، ينساب الحكي كجدول ماء رقراق يشف عما في النفوس من خبايا وأسرار دون حرج ودون مواربة. انتهى.
ذات يوم تحدث رجل بكلام شائن عن أفراد أسرته، لم يترك واحدًا إلا وذكر فيه نقيصة، الأب الفاسد المرتشي وأرصدته المتخمة في البنوك وأملاكه المتناثرة في أهم شوارع المدينة وعلى السواحل، والأم المتصابية وعلاقاتها المريبة بشاب يكبره بعامين، والأخت التي طلقها زوجها بعد ثلاثة أعوام من الزواج بعد ما ضبطها وعشيقها في غرفة النوم، فسألته متعجبة وهي تداري صدرها العاري بملاءة السرير؛
-    إزاي تقول أسرار زي دي لواحدة بتقابلها لأول مرة؟ .. 
فرد عليها ببساطة لا تختلف عن تلك التي أفشى بها كل هذه الأسرار
-    وهو ده السبب !! أول مرة .. وغالبًا آخر مرة
ثم مط شفتيه ونفث خيطًا طويلاً من دخان أزرق، وأردف
-    وحتى لو اتقابلنا ثاني .. كلنا بنتقابل عشان نفضفض وننسي
سحبت نفسًا من سيجارتها، ومالت على جنبها الأيسر مولية إياه ظهرها، وقد أرادت أن تغير مسار الحديث، بعد ما تذكرت المثل القائل (اللي يشوف بلوة غيره، تهون عليه بلوته) 
-    شكلنا ما عجبناش
قهقه عاليًا وقال وهو يلتصق بها، إيذانًا ببدء جولة جديدة يغيبان فيها عن الدنيا
-    انت تعجبي الباشا يا باشا
-    ....
قابلت زبائن من كل صنف ولون، رصت الحشيش على الجوزة للبيه والمعلم، وقطعت فص أفيون بحجم حبة العدس بطرف ظُفر إبهامها وبططته على طرف سبابتها وزرعته بطرف لسانها تحت لسان الزبون، حسب رغبته، ورقصت بالعصا الملونة بلدي ونزلت سلم الفيلا كما طلب الباشا، وسحب آخرين سطور الهيرويين من على مقاطع جسدها، لكل زبون بروتوكول وغالبًا ما تُعلق بصوت هامس وقليلاً بصوت عال، "سبحان الله .. حِكَم"، أذواق مختلفة، وإن ظلت البدايات متشابهة، إذ غالبًا ما يعقب اتفاقها والزبون أن يزدرد -وهما ما زالا في الطريق- حبة أو حبتين، للحبة الزرقاء شهرة واسعة، ثم الصفراء، وقليل منهم من يستخدم البرتقالية والبيضاء.
لا تنسى ليلة كان زبونها من أولئك الذين اعتادوا قبل السهرة تناول ما يُطلق عليه (تحويجة) العطار، كانت ليلة مضحكة وآخر مسخرة، أعد الزبون التحويجة بمعرفته بينما دخلت هي دورة المياه فتحممت وخرجت في حال غير الحال، ما أن رآها حتى هتف مبهورًا، (بسم الله ما شاء الله ... الهدوم مخبية كل ده ..)، وكان حرفيًا، صاحب صنعة لها علاقة بالسيارات، ربما ميكانيكي أو كهربائي أو شيء من هذا القبيل، دلت على ذلك تلك الرائحة التي تصنعها الزيوت والشحوم والجاز للمتعاملين بها فتلتصق بهم ولا تغادرهم.
وكان إذا تحدث تحرك كل ما في جسمه من أعضاء؛ ذراعيه وتقاسيم وجهه ونصف جسده الأعلى، وربما الأسفل أيضًا. 
هلت عليه تتألق في ثوب قرمزي يكشف كتفيها ومقدمة صدرها ويكافح كي يستر عجيزتها، صفق بكفيه وأرسل لها قبلة في الهواء وقال وهو يتجه إلى الحمام وعلى كتفه جلبا خفيف (ليلتنا أُنس بالصلاة ع النبي)، بعفوية عقبت (عليه الصلاة والسلام)، ثم وهي ترد القُبلة في الهواء وتغمز بإغراء (.. مستنياك ..).
جلست تنتظر في غرفة الاستقبال، ثم قامت إلى المطبخ وأعدت طبق فاكهة وجلست أمام التلفاز ريثما ينتهى من حمامه، تناولت حبة جوافة كبيرة، كانت جائعة ولديها رغبة في الأكل، ثم غشتها سحابة ضيق عندما تذكرت ذلك الكابوس، وكان قد بدأ يقتحم عليها نومها، لكن المسلسل التركي الذي تدور أحداثه أمامها جرفها بعيدًا عن كوابيسها وهمومها، حتى أفاقت مذعورة على صوت صراخ قادم من المطبخ، فجرت بتلقائية صوب الصوت، فوجدت الرجل ولم يستو جلبابه المبلل عليه من أثر الحمام واقفًا يندب حظه بعينين دامعتين كأنما فقد عزيزًا لديه، فبادرته؛
-    حصل إيه؟ مالك؟
أجاب بصوت يعتصره الأسى
-    التحويجة ؟!!
-    مالها؟
-    بخ؟؟
ردت مستنكرة بيديها وملامح وجهها
-    إيه بخ دي يا راجل
-    بخ يعني بخ
-    يا لهوي
-    ما تفهمني الله يرضى عليك
-    ومنين يجي الرضا!
-    لا حول ولا قوة إلا بالله
-    .........
-    حصل إيه يا رجل.. ممكن تفهمني
فأشار نحو البوتاجاز الذي غطى سطحه سائل عَكِرْ مائل للاصفرار، بينما الكنكة مائلة على أحد جانبيها، ثم عقب 
-    التحويجة كانت ع النار  
فعلقت ولم تكن في حاجة إلى مزيد من شرح
-    يوه.. يخيبك راجل
-    ....
-    فارت ؟!!
هز رأسه في أسى والدموع تكاد تطفر من عينيه
-    ...
فعاجلته وهي تغمز بعينها وتسحبه من ذراعه نحو غرفة الاستقبال
-    ولا يهمك .. عندي اللي انقح منها ..
-    ...
مضى معها مستسلمًا يائسًا، إذ كانت آخر ما عنده، وكان لا يثق في شيء سواها، لم يقتنع يومًا بصنف كِيفْ ولا حبوب من تلك التي طالما تغني رفقاؤه بها ونصحوه أن يتناولها قبل لقاءاته، لكنه كان كما يقول المثل (ودن من طين وودن من عجين).
كأن في التحويجة سر الأسرار، ارتبط بها، فلا يدعو امرأة وجيبه خال منها، وصدق من قال (لو اعتقد أحكم في الماء لجمد)، كانت علاقة يقين لا واقع، وقد كان، بذلت جهدًا كبيرًا لإسعاده وإخراجه من حالته دون جدوى. باءت كل محاولاتها بالفشل، حتى عندما أخرجت ذلك الشريط المربع فضي اللون وضغطت على إحدى حباته؛ زرقاء اللون والمثلثة الشكل، وطلبت منه بلعها مع جرعة ماء غامزة بعينها وهي تقول (سوف ترى ..)، رفض رفضًا باتًا وألقى بالحبة بعيدًا كأنما يتخلص من حشرة وجدها فجأة على فراشه.
الراوي:  لا تتخيلوا كم كان محبطًا وعاجزًا حتى عن رفع رأسه والنظر في عينيها، وسيطرت عليه كآبة، بعد ما فقد عزيًزا لديه، وفي الهزيع الأوسط من الليل اضطرت للانصراف حزينة لأجله ومكسوفة البال وإن لم تستطع -في نفس الوقت- منع نفسها من الضحك بصوت مكتوم مراعاة لمشاعره، وحتى وهي تمتم في سرها (اللي يعيش يا ما يشوف). انتهى.
(اتفضلي)، استيقظت من أفكارها على صوت الرجل الجالس إلى جوارها، اطفأ أنوار السيارة بعد ما أوقفها إلى جوار منزل من أربعة أدوار، بدا كالح اللون.
-    مساء الخير يا سمرة .. مساء الخير يا رجاله
قال الرجل ملوحًا بذراعه محييًا بضعة رجال يتحلقون غير بعيد حول طاولة مستطيلة الشكل يتكئون عليها بمرافقهم لحجب قطع الدومينو عن بعضهم البعض، وإلى جوار كل منهم جوزة تتعلق بوصتها الطويلة المغسولة بفمه، كأنما ولدوا بها، ينفثون دخانها المعتق برائحة البانجو الحادة في تلذذ واسترخاء، كان الضوء خافتًا كئيبًا لكن كآبتها وتوترها زادا عندما لاحظت واحدًا منهم أو أكثر يلفون وجوههم بكوفية صنعت حول عيونهم المثقلة بالحشيش والسهر إطارًا قماشيًا، رفع أحدهم جفنين ثقيلين تجاههما ثم لوح بذراعه هاتفًا
-    سمسم !! .. ليلتك أُنس
-    تسلم يا حبيبي
ثم أردف آخر بصوت أجش أقرب لصوت جر جسم معدني على أرضية متعرجة
-    محتاج صنف شيء يا شِقيق
-    تسلم يا حودة .. خيرك سابق
-    ليلتكم فل وعشرة
-    ميت مسا
-    ...
دلفا من البوابة الحديدية الصدأة، وصعدا سلمًا مكسور السلالم يكتنفه ضوء هزيل، كادت أن تتعثر أكثر من مرة، فبادرها ممسكًا بكفها، فأُخذ بطراوتها، ولم يكن قد لمسها منذ التقيا
-    حاسبي تقعي .. هاتي ايدك
أجابته بصوت فيه رهبة
-    السلم ضلمة !!
-    لحظة ..
-    ...
أخرج هاتفه المحمول واضاء الكشاف، فانجلى جانب كبير من الظلمة، صعدا طابقين يغشاهما صمت مهيب، تصورت أن لا أثر فيهما لحياة، اللهم إلا من بصيص ضوء يتسرب بالكاد من شُراعة زجاجية من بعض الأبواب الخارجية.
باغتها صوت صراخ سيدة تُعنف صغيرها وتتوعده جراء تقصيره في أداء الواجبات المدرسية، واصلت صعودها وجلة يخفق قلبها بضربات عالية، تذكرت أمها في هذه اللحظة، سمعت صدى صوتها، كأنما يخرج من جوف بئر، تندب حظها وسوء بختها، ثم توبيخها لها بعد ما وصل خطاب من المدرسة يحوي إنذارًا بالفصل لكثرة غيابها، حاولت أمها معها ولم تفلح في استنطاقها، تمسكت بأنها مواظبة على الحضور، وبأن الخطاب جاء خطأ، كانت تكذب وتعلم أنها تكذب، كانت قد انغمست في قصة حب مع شاب يكبرها ببضعة أعوام، كانت تقابله في نفس توقيت المدرسة، ومع الوقت والإحساس بالتقارب دعاها لزيارة بيت أسرته، في البداية تمنعت، ثم وافقت، ذهبت وتعلم في قرارة نفسها أن لا أسرة في الموضوع، وأنهما –هي وهو- في حاجة ليطفئا ظمأهما، وقد كان. 
تطورت العلاقة، ودامت لفترة ليست بالقصيرة، ثم فجأة اختفى الشاب، وعندما سألت عنه في السكن الذي اعتادا اللقاء فيه وذكرت اسمه، لم يتعرف عليه أحد، حتى ظنته وهمًا مرت به، لكنها عندما أطلعت حارس العقار على صورته التي اتخذها رمزًا لبرنامج التواصل الاجتماعي واتس آب، أخبرها أن اسمه وحيد وليس عادل كما تقول، أو كما كان يقول لها.
شعرت برغبة في البصق فالتفتت عن يسارها، ثم صرفت النظر عندما وقف الرجل أمام باب شقة على يمين السلم في الدور الثالث فعالج بابها بالمفتاح ودخل خطوة واحدة وراح يتحسس بيده مفتاح النور، فما أن ضغط عليه حتى اكتسح الضوء نمل الظلام في لحظة. زكمت أنفها رائحة شقة لا تعرف شبابيكها هواء الشارع، مد ذراعه مرحبًا، فدخلت بتوجس تدرَبَتْ عليه.
مسحت الشقة المتواضعة بعينيها وخمنت موقع الغرف والحمام، فرش بسيط يعلوه التراب، لا توحي الشقة أن امرأة أقامت فيها، وإلا لمنحتها من جمالها وبهائها ما يُكسب فرشها المتواضع قيمة أعلى. مد ذراعه مُرحبًا وقد سكنت صوته طمأنينة،
-    تفضلي
تحركت بفعل الغريزة، يدها على صدرها وعيناها تتجولان في الأركان والزوايا، وأمام توجسها وتقدمها البطيء كرر كلمته
-    تفضلي .. تفضلي .. مش أد المقام .. لكنه يزيد بيك
-    شكرًا .. شكرًا يا .. (ثم قالت مستدركة) يوه لغاية دلوقتي ومتعرفناش
-    سامي .. محسوبك سامي .. (ثم وهو يمسك بذقنها بين إصبعيه) والقمر اسمه إيه
-    ريري .. قولي يا ريري
فقال وهو يهز رأسه كمن يعرف شيئًا، لكنه سيجاريها 
-    وماله .. بيتك ومطرحك يا ريري
ثم أردف مادًا ذراعه نحو اليسار،
-    الحمام شمال .. خدي راحتك .. على ما تاخدي دش أكون جبت لوازم السهرة ورجعت لك
علقت بصوت مرتفع قليلاً كله تهكم
-    لوازم السهرة !! .. طب كنت قلت لي إننا ها نقضيها "شوبنج" !! وأنا ارتب حالي
-    بلاش تريقة .. عشر دقايق وأكون عندك (ثم وهو يدفعها برفق من كتفها نحو الحمام) على ما توضبي نفسك أكون رجعت !!
ضربت ظهر كفها الأيسر بباطن كفها الأيمن ووضعتهما على جانبها الأيسر، وسألت بصوت يغلب عليه الضيق
-    عشنا وشفنا .. دقايق .. ما تتأخرش
-    ...
قالتها بصوت كله ضيق ونفاذ صبر، بينما ولى سامي ظهره واتجه نحو الباب وسرعان ما أغلقه خلفه. كانت في حاجة لدخول الحمام، فدخلت وأفرغت مثانتها وتوترها. 
ذكر لها سامي اسمه من دون اكتراث، ولم تشغل بالها أهو اسمه الحقيقي أم لا، فكل هذا لا يهم في علاقة عابرة لا تستدعي التعمق في التفاصيل .. لا تبذل مجهودًا فيما لا يستحق.
ثمة شيء يشغل بالها، العمل في هذه المهنة نصفه جسد ونصفه الآخر تخمين، وبقدر دقة التخمين تحافظ على نفسك وتنجح في كسب الزبائن والمال، مهنة فيها من المخاطر ما يفوق مهنة الإطفائي من مخاطر.
ثم ابتسمت وهي تتخيل نفسها ترتدي زي إطفائية، وكيف أن من يقابلها ويتعامل معها يعتبرها إطفائية من الطراز الأول، فقبل أن يلتقيا يكون الرجل عادة متوهج المشاعر، مشبوب العاطفة، حتى إذا ما التقيا، وأفضى بعضهم إلى بعض، خمدت ناره، وبردت مشاعله.  
تلتقي أُناس لأول مرة وتبرم معهم اتفاقًا بكلمة، ويشرعا في تنفيذه. تتعامل مع كل الأجناس والأصناف، وعليها وحدها إرضاء أذواقهم، الراقي والوضيع. عرفت رجال يقف الشارع على رجل واحدة لحظة مرورهم به، لهم هيبة ويخشاهم الجميع، مثل هذا النوع من البشر تنسج حوله من الأساطير ما يفوق الواقع، وعلمتها الأيام ألا تأخذ بالمظاهر، وكم بصقت عليهم بعد ما التقت بهم، سقطوا من نظرها، وآخرين لا تكاد تنتبه لمرورهم بها، وتمنت لو أمضت بقية حياتها خادمة تعمل تحت أقدامهم، فرق كبير بين الظاهر والباطن، بل لا علاقة أصلاً حتى تكون هناك مقارنة.
وضبطت نفسها فجأة تدندن دون سبب "بانو بانو .. على أصلكم بانوا .. والساهي يبطل سهيانه .. ولا غنى ولا صيت .. دولا جنس غويط .."، فتراءت لها صورة سعاد حسني بعينيها الحزينتين ورغبتها الملحة في الانتقام تخرج من بين أمواج النهر، وترتفع عاليًا بجسد عملاق حتى تحاذيها على القنطرة الشاهقة، بينما تقف هي متجمدة من الرعب.
سألت نفسها، هل يمكن أن ألقى مصير شفيقة، هل يمكن أن أجد نفسي ذات يوم محصورة بين وجه أحد رجال العائلة والجدار، أصرخ فلا يطلع صوتي، أحاول الهرب فإذا كل ما حولي جدران بلا أبواب.
استعاذت بالله من الشيطان الرجيم، وأرجعت توجسها إلى أنها في مكان بعيد عن العمران، وأن هذه الهواجس تصاحبها عادة عند التعامل مع زبون جديد، وإن لم يمنع هذا زيادة حدة هواجسها منذ بلغها مقتل صديقتها صابرين على يد أحد ابناء عمومتها، بعد ما استدرجوها وأوقعوا بها، وقالوا بعدها أن بإمكانهم الآن أن يرفعوا رأسهم، بكت وقتها كما لم تبك من قبل، كانت صابرين أقرب المقيمات بالدار إليها، تقاسما الغرفة ورغيف العيش والأحلام، كم حكت لصابرين، وكم حكت صابرين لها، عن ميراث الوالد الذي أكله الأعمام، عن الخال الذي كان يدس في يد أخته بضعة جنيهات في أول كل شهر، ثم اختفى فجأة، عن الجيران الذين رأوا فيها يتيمة تستحق الصدقة، عن رجال العائلة الأشاوس الذين أعادوا يد الطفلة الممدودة إليهم ألف ألف مرة فارغة، واكتفوا بمليء أذنيها بالأماني والوعود الكاذبة، وعندما شبت عن الطوق توعدوا أمها المسكينة الضعيفة بالويل والثبور وعظائم الأمور، والأم بلا حيلة ولا قوة أمام ابنة يفور جسمها كل صباح كما يفور الحليب في القدر، والقهوة على النار.
وقفت الأم عاجزة محاصرة؛ بين ضعفها، وفقرها، وقلة حيلتها، وفوران موج شباب عنيد يرنو لشاطئ الغواية، وكل من حول ابنتها يأكلونها بعيونهم، ويفرشون لها طريق الود بالورد والمال، والابنة فقيرة وصدرها خزان أحلام ولود، قاومت وتماسكت قدر استطاعتها، وفي الأخير أطلقت العنان لشبابها، أكلت حتى ملت الأكل، وسافرت حتى ملت السفر، وشربت حتى مَلَت الشرب، وحلمت وتمنت حتى مَلَت، ومن بعد كل هذا ألف ألف رغبة حتى ملت.
وفي نهاية الشوط، ولأسباب غير معلومة استيقظ أهلها فجأة وراحوا يبحثون عما أطلقوا عليه شرف الـعائلة، كم كان الأمر جد مضحك لعائلة عاشت أجيالاً متعاقبة تتجاهل البنت وأمها، ثم فجأة تكتشف أن هناك شرف مُهدر. تخيل أن شخصًا ما يبحث بعد نحو عشرين عامًا عن شيء فقده طفلاً.
ولكي تداري العائلة غيرتها المزعومة وتقصيرها الفاضح بحثوا عنها في كل مكان، شنوا حربًا مقدسة لا تختلف عن تلك الحروب الصليبية التي حرضت كل رجل أن يقتل بضمير مرتاح، بل ويتباهى بعدد من قتل وأحرق وسلب، صارت كل ضربة سيف، وطعنة رمح، ورمية سهم دفاعًا عن الدين، وهو منها براء، كذلك كان من قالوا بعد القتل أنهم أعمامها وأخوالها، من ادعوا تطهير الأرض من دنس صابرين !!، كانوا هم الدنس وليس هي.
الراوي: اعتادت رجاء –وهذا هو الاسم الحقيقي لبطلة قصتنا التي تأخر ذكر اسمها لأسباب غير معروفة لا لك سيدي القارئ ولا حتى لمؤلف هذه القصة- اتخاذ اسماء حركية لأغراض العمل فقط، فضلاً عن كونها اسماء للتدليل، فرجاء كانت ريري، وصابرين كانت شوشو، ولا تحاول عزيزي القارئ أن تجد ثمة علاقة بين الاسم الحقيقي واسم الشهرة، اسماء ورقية تلقى في سلة نفايات النسيان بعد استخدامها مباشرة، تمامًا كما نفعل بتلك الأكواب الورقية التي ما أن يفرغ ما تنتهي مهمتها حتى نلقيها في أقرب سلة، ولا نعيرها اهتمامًا دهستها السيارات أو داستها الأقدام. سيان. انتهى.
استرجعت رجاء ذكرياتها مع صابرين فدمعت عيناها، خاصة عندما تذكرت كيف كانت صديقتها تحرص على أن تترك لها ما يكفيها من طعام. 
ولأسباب ترجع إلى صعوبة فهم كيف تتداعى الأفكار والخواطر على بني البشر، وربما الحيوان أيضًا، حاصرت رجاء وجوه العم والخال فلم تجد فرقًا بينهم وبين الطرابيشي وأفندينا الذين غرروا بشفيقة .. كانوا جميعًا في نظرها قوادون وتجار عبيد.
أفاقت من شرودها على ثمة أصوات أقدام وجلبة على السلم، وتذكرت أنها ما زالت تنتظر عودة سامي بلوازم السهرة، اقتربت واسترقت السمع، داخلها خوف وارتفع وجيب قلبها، بينما راحت الأصوات تقترب شيئًا فشيئًا. 
تحول نبض قلبها إلى دقات طبول يكاد يسمعها الواقف على الباب، رغم هشاشة الضوء بدت الخيالات المتحركة غيلانًا هائلة الحجم أسطورية الأطراف على سطح الباب الخارجي بفعل ذبالة الضوء الباهت الكالح المتسرب بالكاد من مصباح سلم صنع منه الذباب دورة مياه وزينه بمخلفاته !!.
بدا واضحًا أن ثمة خلاف بين الواقفين أمام الشقة، تتصاعد وتيرة الأصوات، علا صوت أحدهم (أنا قلت اللي عندي وما عنديش كلام ثاني)، كان الصوت أقرب لصوت الرجل الجالس إلى الطاولة عندما حيا سامي بنبرة أقرب لصوت جر جسم معدني على بلاط غير مستوي، اختلطت الأصوات، وإن فسرت فيها صوت سامي، أو هكذا اعتقدت، ثم احتدم النقاش وبدا أن هناك تدافع بين المحتشدين، وداخلها يقين أنه لن يلبث أن يتحول إلى عراك، فأمثال هؤلاء لا يتورعون عن العراك ولا عن استخدام أسلحة من قبيل طبنجة أو فرد خرطوش وربما سيوف من دون تردد، فهذه قواعد تعارفوا عليها وقبلوها فيما بينهم.
تلفتت رجاء مذعورة، فتحت أقرب الغرف إليها واضاءت النور، لا تدري أين تذهب أو كيف تختبئ، مَنْ هؤلاء، ولماذا يتعاركون، وما دخل سامي، قالت لنفسها (كانوا ودودين جدًا عندما رأونا .. هل لعب الحشيش والبانجو برؤوسهم ويريدونني !!، أم .. أم .. )، ثم وضعت كفها على فمها ولم تستطع أن تكمل الجملة، إذ قفزت إلى ذاكرتها صور الرجال الملثمين المتحلقين حول الدومينو، (هل كان فيهم من يتربص بها) سألت نفسها وهي تجري بين الغرف، ثم تتجه إلى المطبخ وتقبض بيدها على سكين كبيرة.
ازداد هلعها .. راحت تجري داخل الشقة على غير هدى والأصوات في الخارج تعلو إلى أن شرخ صوت طلقة رصاص كل ما علا من ضجيج فعم صمتٌ لبضع ثوانٍ بدت كدهر طويل .. لا تعرف أهي طلقة للتحذير أم أنها أصابت أحدهم، وربما قتلته.. هل اختلفوا بسببها، وماذا عندما يأتي البوليس ليحقق في الأمر، وهل ستظل حية حتى يأتي البوليس.
جرت نحو البلكونة، دفعت الباب الخشبي بكتفها ليفتح، فوجدتها غارقة في الظلام والتراب يغطي أرضيتها، لم تستطع تمييز ما فيها على شحيح ضوء القمر الفضي الباهت، لكن شيئًا آخر وقع فبث فيها رعبًا جمد كل ما فيها من تفكير، وجعل منها كائن تحركه وتسيطر عليه غريزة البقاء للنجاة بحياته، إذ انكسر في تلك اللحظة باب الشقة وتزاحمت الأصوات العالية والضجيج والصراخ في داخلها.
ما كل هؤلاء الرجال، ومن أين جاء رجال الشرطة، لصقت ظهرها في زاوية البلكونة كأنما تبحث عن وسيلة لتختبئ بين الطوب والإسمنت.. قتلها الرعب ولم تعد قادرة على الوقوف، تحسست السور، ونظرت إلى أسفل، فوجدته على نحافته يوصل لبلكونة الشقة المجاورة، فقررت المغامرة بحثًا عن النجاة.
تسلقت السور بمشقة ثم ركبت فوقه، مثلما يفعل راكب الحمار أو الحصان، فتأرجحت ساقيها حوله، وكادت تقع من هول المشهد، لولا تشبثها به، فأقعت بصدرها على حافة السور مخافة السقوط، كانت في وضع لا يحقق لها التوازن المطلوب، فحاولت بأظافرها التشبث بجدار السور، من الداخل والخارج.
وبينما هي مشغولة بالحفاظ على توازنها، لمحت عن يمينها ثمة خيال لجسم بشري هائل يتحرك مخترقًا المباني ويتجه نحوها، رفعت رأسها قليلاً وميزت الأقراط الطويلة المعدنية المدلاة إلى جوار الوجنتين الورديتين، والكردان الذهب على الصدر، مع نفس الفستان المكشوف الصدر بلونه المائل للبني من دون أكمام تتدلي على جانبيه شراشيب لُضم فيها خرز ملون وقطع معدنية دائرية لامعة .. كانت سعاد حسني بوجه بين الحزن والرغبة في الانتقام تخطو نحوها في هدوء وثقة، حتى إذا اقتربت مدت لها ذراعين طويلين، رفعت رأسها عن السور وراحت تتأملها فلمحت في الخلفية وجه صابرين مبتسمًا .. وهنا دوت طلقة رصاص أخرى أعقبها صمت مطبق ولم تعرف رجاء/ريري ماذا حدث بعدها !!. 
الراوي: وهنا أجدني سيدي القارئ مجبرًا على التوقف عن السرد، وأرجو ألا تغضب فبتوقفي أترك لك حرية اختيار النهاية التي تراها مناسبة.. وهذه قمة الديموقراطية الأدبية؛ أن يترك الراوي للقارئ قرار النهاية .. لكنني ولأسباب إنسانية بحتة، وكذلك احترامًا لك على تفضلك بقراءة القصة، أو الاستماع إليها، وأيضًا حتى لا أشق عليك أظنك أمام خيارات أربع .. 
فإن كنت ممن يحبون النهايات السعيدة فلا شك أنك سوف تجعل ما ورد في الفقرات السابقة مجرد خيالات عاشتها ريري تحت تأثير حبة هلوسة تناولتها خطأ أو بسبب كابوس يطاردها على خلفية ما وقع لصديقتها صابرين، وأنها فجأة، ولأي سبب، سوف تفيق من خيالاتها على صوت جرس الباب يرن فتترنح تائهة بين اليقظة والنوم، حتى يدخل سامي عليها، محملاً بصنوف الطعام والشراب، فيلازمها التيه قليلاً حتى تفيق وتعود إلى سيرتها الأولى من مرح وصخب إلى أن تنتهي الليلة وينصرف كلٌ إلى حاله .. 
وربما كنت ممن يوغلون في الرومانسية فتنهي الليلة على بداية لعلاقة حب يمكن معه نسيان وغفران كل منهما الماضي؛ يغفر لها سامي ما مضي، وتغفر له أيضًا، وأرجو ألا تتسرع وتصدر حكمًا بأنه من الصعب عليه أن يغفر لها، فأت لا تدري عن ماضيه شيئًا، فلا أنا رويت، ولا المؤلف حكى، وعليه سيدي القارئ أراك تُلمح بطريقة سريالية إلى احتمال زواجهما ليبدئا حياة جديدة يتساند فيها كل منهما على الآخر .. 
وربما كنت واقعيًا فتنهي القصة على شيء من دراما مصدرها صعود ذلك النفر الذي كان يلعب الدومينو على ناصية الشارع مع سامي لقضاء ساعة من اللهو مع ريري .. فإذا بها بين رجال خمسة لا تملك أن تعصي لأي منهم أمرًا وإلا ما تردد في دفنها حية دون أن يعرف لها الذباب الأزرق طريق جُرة كما يقول المثل .. حتى إذا ما قنع كل منهم بحظه منها تركوها تنصرف منهكة متعبة تحمد الله على نجاتها، ولا شك أنك لن تنسى أن تجعل رجاء تتمتم وهي في طريقها إلى بيتها بالسيارة ما اعتادت ذكره بعد كل مغامرة؛ "جت سليمة .. اللهم اخزيك يا شيطان" .. 
وربما كنت سيدي القارئ ممن يفضلون قصص الرعب والإثارة فتمعن في تصور أن ذلك الصخب أمام باب الشقة لم يكن سوى نفر من أسرتها ساءهم من سلوكها ما ساء أسرة صابرين فجاءوا لينتقموا من ذلك الشرف المهدور وأن ذلك الرجل الذي كان يلعب الدومينو محاولاً اخفاء وجهه لم يكن سوى واحدًا من أقاربها غليظي القلب، ثم ها هي تري كابوسها يتحقق ويحاصرها الخطر من كل جانب ولا تعرف إلى أين تمضي فتتجمد في مكانها باحثة بعينيها عن مخرج فلا تجد سوى الشرفة تجري إليها لتعانق سعاد حسني/شفيقة التي تلتقطها بذراعين عملاقتين وتهرب بها إلى بعيد حيث تنتظرها صابرين وفي يدها كوب ورقي به بعض عصير أو شراب دافئ، لا يهم، فمصير الكوب في الحالتين واحد.
هذه بعض النهايات سيدي القارئ .. وأتمنى عليك ألا تتردد إن رسمت نهايات أخرى، أن تذكرها، وتدونها، فيطلع عليها آخرون، وتأكد أن الأمر يرجع إليك .. إليك وحدك .. فأنت صاحب القرار في تحديد النهاية .. انتهى.
 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved