آخبار عاجل

كلُ اللوعاتِ في الحب سواء.. بقلم د: محمد مصطفى الخياط

03 - 08 - 2024 11:00 180

 

لم يكن صاحبنا يرتب لهذه السفرة، لكنه وجد نفسه مضطرًا لمغادرة مجلسه في أحد زوايا البيت ويترك الرواية التي يقرأها جانبًا، مستأذنًا من أبطالها وقد أوشك أن يُتمها كارهًا خاتمةً يتوقع أن يسير بطليها في طريقين متوازيين؛ كلٌ في اتجاه.

غادر صاحبنا مجلسه متذمرًا في صمت بعد ما تكررت نداءاتِ سيدةِ الدار وارتفعت في كل منها نبرة صوتها وصارت أقرب للصراخ، فقام مؤثرًا السلامة يُعد ما يلزمه للسفر، وما يلزمه كثيرُ غَرضٍ.

ولأنه اعتاد في مثل هذه السفرات أن يصحب معه صديقًا أو صديقين من أصدقائه الكتب، فقد مد يده إلى حقيبة صغيرة فخرجت بكتابين؛ "الحب الضائع" للدكتور طه حسين، والثاني "أُنس الحبايب" للحكاء خيري شلبي.

وقد كان تقدير صاحبنا أن كتابًا واحدًا يكفي لمثل هذه السفرة القصيرة، ولكن كيف لك سيدي القاريء أن ترد ضيفين كريمين طرقا بابك في اللحظة ذاتها، فغلب صاحبنا ما يغلب الكثيرين في مثل تلك المواقف من حرج، ودسهما ضمن متاعه بحقيبة السفر، وعاد أدراجه إلى زاويته الأثيرة يُكمل قراءة تلك الرواية مستسلمًا يائسًا بائسًا بالنهاية المتوقعة.

وما أن استوى في محله الجديد حتى سارع يتأمل صاحبيه، محتارًا بأيهما يبدأ، أبأحد أساتذة الواقعية السحرية صاحب روايات الوتد، ووكالة عطية، وثلاثية الأمالي، وصالح هيصة وغيرها مما لو شرعت في قراءتها لم تتركها إلا وقد أنهيتها. أم بالعميد ولغته الخاصة التي ما قرأها إلا ورأى فيها امتدادًا لما في لغة الأقدمين من رصانة وجزالة وتراكيب بديعة، يقرأ فيرنُ في أذنيه صوت العميد الخشن في جَرسٍ عذب، كأنما ينطق حروفًا غير الحروف، ولغة غير اللغة.

وإعمالاً بمبدأ تقديم الكبير، جلس صاحبنا إلى العميد، فإذا هو أمام ألوان من الحب في قوالب قصصية استقاها من أحداث واقعية بلغه خَبرَها من ريف فرنسا ومُدِنِها.

فهذا حبٌ مُكره بين فتاة وشاب فرض نفسه عليها فرضًا انتهى بزواج غشيته غيوم شك. وذاك حبٌ يائس لا نعرف تفاصيله إذ حملنا العميد مباشرة إلى ذلك المشهد المهيب لراهبة شارفت على الستين من عمرها تكاد تنهدم انهدامًا عندما وجدت أمامها ذلك الشاب الذي أحبته وأحبها في ماضي الزمان شيخًا مُسنًا يرتدي زي الرهبان، فتتذكر ويتذكر، وتلتمع العيون ببقايا زُبالة ضوء خابٍ وأمل يائس.

وهذا حبٌ ضائعٌ اكتشفت فيه الزوجة حب زوجها لصديقتها، فإذا هي تائهةٌ تُفضي إلى دفترها ما لا تُفضي به إلى أحد؛ تبثهُ شكوكها وعذاباتها وأرقها، تحادثه كصديق وفيّْ لا يعرف الغدر ولا البوح، إلا أنه مبتور اللسان عاجزٌ عن النصح. وقد كان من تداعيات الأحداث ما دعا السينما إلى تمصيرها وتقديمها في فيلم تقاسم بطولته رشدي أباظة وسعاد حسني وزبيدة ثروت.

وبينما صاحبنا مستغرقٌ في قراءته، إذا بصوت سيدة الدار يعلو مُلمحًا ومصرحًا بأنهم ما جاءوا إلى هذا المكان الساحلي، ولا صرفوا تلك الأموال، ليجلس صاحبنا إلى كتبه في زاوية لا تختلف كثيرًا عن زاويته في بيته، ثم راحت تعدد محاولات دفعها له بعيدًا عن كتبه دفعًا رقيقًا مرة، وجافًا مرات، وخشنًا ذات مرة، وصاحبنا على حاله، فما كان منه إلا أن أغلق كتابه ورسم ابتسامة صغيرة على وجهه ودعاها للتريض فقامت متثاقلة بشكها في صدق نواياه.

وكم كانت مُحقة، فلقد سار معها جسدًا وفارقها خيالاً يفكر في تصانيف الحب ولوْعاته، فتلك لوْعة البعد، وتلك لوْعة التمني وعجز الوصول، وتلك لوْعة الفقد، فما كان منه إلا أن زفر زفرة كوى حرها صدره، وتمتم في نفسه "كل اللوعاتِ في الحب سواء !".

 

 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved