(أَمَرْ عذاب.. وأحلى عذاب/ عذاب الحب للأحباب)، بهذا المقطع من أغنية دارت الأيام للشاعر مأمون الشناوي افتتح أحد القراء الأفاضل تعليقه على مقال الأسبوع الفائت (كل اللوعات في الحب سواء)، موضحًا أنه باستثناء لوعة الفقد التي تُخلف اليأس، فإن حب بلا لوعات، هو حب ينطلق بأقصى سرعة نحو هاوية الملل، حيث تدفن بقايا الحب. ولا عزاء للقلب!
ثم شرد بعينيه بعيدًا، وأشرق وجهه بابتسامة جميلة وقال مكملاً حديثه (اللوعات من قبيل الغياب والغيرة والشوق هي مِلح الحب التي تُظهر لكل طرف قيمته ومكانته عند الطرف الآخر.. وبقدر الحب يكون العتاب..)، ثم بلغة توكيد تابع (طول ما فدادين التسامح خضراء، أطمن)، فعقبت لكأنك تشير من طرف خفي إلى مقطع آخر في ذات الأغنية (قابلني والأشواق في عينيه/ سلم وخد إيدي في إيديه/ وهمس لي قال لي الحق عليه/ نسيت ساعتها بعدنا ليه/ فين دموع عيني اللي ما نامت ليالي/ بابتسامه من عيونوا نسهالي)، ولكن حذار أيها المحبون، فلكل شيء نهاية، حتى فدادين السماح يمكن أن تحولها الغيرة العمياء إلى سباخ.
في كتابه المرح (الحب وسنينه)، للكاتب الساخر أحمد رجب، رحمه الله، لا تكاد تتعاطف مع النساء حتى تفتح فمك من الدهشة عندما يصارحك بخفة ظله المعهودة قائلاً (أنا مريض بالملل العاطفي. لا أستطيع أن أحب امرأة أكثر من شهر حتى ولو كانت ملكة جمال الكرة الأرضية، واليوم كان اللقاء الأخير مع دوللي التي عرفتها منذ واحد وعشرين يومًا).
مسكين أحمد رجب جرجره الحب في أرض الله ومسح بقلبه الأخضراني بلاط قارات الحب وشوارعها، فنشر كتابًا آخر بعنوان (يخرب بيت الحب) تناول فيه بأسلوبه الساخر -الذي افتقدناه- الحب قبل، وبعد الزواج، ظن أن هناك من يسمع كلامه، ونسي حكمة الأستاذ نجيب محفوظ القاضية بأن (آفة حارتنا النسيان).
حتى عندما نشر بروازه اليومي في الصفحة الأخيرة بجريدة الأخبار مع صديق عمره الرسام الراحل مصطفى حسين تحت عنوان "الحب هو"، ضاعت جهوده سُدى، يكتب رجب جملة عن الحب وحسين يرسم؛ تحت رسم لشاب يصطحب فتاته إلى مكتب للترجمة، كَتبَ رجب (اجتهد لكي تفهمها). ولن يفهمها! كان ثنائي رائع متخصص في رسم البسمات.
ومن الثنائيات الناجحة أيضًا، الأخوين رحباني وصورهم الشعرية؛ اقرأ وتخيل معي سيدي القارئ (خدني يا حبيبي ع بيت ماله أبواب.. خِدني يا حبيبي عَ قمر الغِيَّاب...)، فكلما صدحت فيروز بهذه الأبيات تزاحمت في عينيي أسراب الفراشات والعصافير وباقات الزهور وتفجرت عيون الماء البارد من جوف صخر الجفاء.
ولعل في هذه الأغنية ما يُرضي أولئك الذين عقبوا على ذات المقال ودافعوا دفاع المخلصين عن الغيرة، حتى العمياء منها، والآن قل لي أيها القارئ الكريم ما معنى الإقامة في بيت بلا أبواب، ظاهره الاكتفاءً بالحبيب وباطنه إبعاده عن الأخريات. كم أنت طيبة أيتها المرأة.. اعتقال بتصريح الحب.
ولنا فيما قالته ولادة بنت المستكفي عن الغيرة ما يكفي !، (أغارُ عليكِ من نَفسي ومِنّي.. ومِنكِ ومِن زمانكِ والمكانِ/ ولو أنّي خبّأتُكِ في عيوني.. إلى يومِ القيامةِ ما كفاني).
لله در محب ثَبُتَ على هذين البيتين الجامعين لكل خلق الله. وليهنأ أهل الغيرة بدفء نارها ورماد حبها! صهدًا فضله الشاعر أحمد رامي على نسمة رطبة غار منها في ليالي الصيف الحارة؛ (أغارُ من نَسْمَةِ الجَنوبِ على مُحيَّاكَ يا حبيبي)!
أما قمة مآسي الغيرة، فكانت في رواية (عطيل) للكاتب الإنجليزي وليم شكسبير، حيث انتهت بأن دفعت ديدمونة حياتها ثمنًا لغيرة وشك زوجها.
وليهنأ أهل الغيرة بغيرتهم.