يحمل الصيف من مشاعر الانطلاق والمرح ما يحمل النفس إلى شيء من الترويح، تخف معه الضغوط، ولو إلى حين، للسفر متعٌ عدة تكتنفها روح المغامرة وحب الحياة.
انطلقت السيارة يكبحها زحام شرايين العاصمة، لا فرق بين وسط البلد بمبانيه العتيقة، المكتنز بمحلاته التجارية ومعارضه وسائحيه، وبين حي يقع على الأطراف، كنت تظن أنك ما أن بلغته أُطلق سراحك، لكنك سرعان ما تكتشف أن لا فرق بين المركز والمدارات، زحام في زحام، يوشك ألا يُفلتك من قبضته القوية ولولا تجاوز العمران ما انطلقت السيارة تشق الهواء وتُعَوضُ ما قضت في الحبس من زمن، مُطوحة بأكياس رمل الزحام على جانبي الطريق.
تنفسنا الصُعداء، وأيقنا أنها مسألة وقت لطول بُعد المقصد، وراح كل واحد منا يرسم في خياله ما ينوي إنجازه في نهار أيامه، وما يعتزم أن تكون عليه أمسيات لياليه، عاقدًا العزم أن يأخذ من أسباب السعادة قدر طاقته، وأن يهجر نمط عيشه الرتيب، الذي مَلَهُ ومل منه، كأنه لا يعرفه ولا يريد أن يعرفه.
لكننا لم نكد نتجاوز سرعة الثمانين كيلومتر في الساعة، إلا وشعرنا باهتزاز السيارة، كأنما تُرج رجًا ترتفع وتيرته كلما ارتفعت السرعة، وهنا زم قائد السيارة شفتيه محبطًا ممتعضًا، وخفض سرعته وهو يُعقب (محتاجين ترصيص)، أو كما يقول أهل الخليج (موازنة الإطارات أو الكَفَرَات).
غشا الوجوه بعض الوجوم، وشوح أحدهم بذراعه مؤكدًا أنها (عين وصابتنا)، وأنه جاء اليوم الذي يعي فيه الجميع قيمة نصيحته التي كررها مئات المرات، ألا وهي (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان)، ثم استرجع وعاد بظهره إلى مسند المقعد مستسلمًا يائسًا.
ألزمنا السير بسرعة متوسطة أن نخسر نحو ثلث الوقت، فضلاً عن ارتفاع مستوى الإحباط والملل، وبأن الرحلة المرسومة في أذهاننا بالألوان تتحول مع الوقت إلى لوحة مشوهة بالأبيض والأسود.
بعد نحو أربعين دقيقة من السير المقيد، انحرفنا بالسيارة يمينًا نحو محطة وقود ملحق بها ورشة لإصلاح الإطارات إلى جوار استراحة لتناول الشاي والقهوة.
بحرفية فك فني الورشة الإطار ووضعه على جهاز الترصيص، وفي خلال دقائق أضاف قطع من الرصاص في مواضع بعينها، ثم أداره دورتين متتاليتين، حتى إذا ما اطمأن إلى النتيجة، ضرب عليه بكفه القوية المبقعة بالشحم ضربة ثقة، ثم حمله وأعاده إلى موضعه بين ابتساماتنا.
حرصًا على الوقت، أكملنا شرب ما بقي من القهوة في السيارة، التي راحت تطوي الأرض، ولولا التزامنا بالسرعة القصوى لعوضنا ما خسرنا من وقت.
عندما أمعنت التفكير في ملابسات رحلتنا وجدتها تتوافق مع الكثير من جوانب حياتنا العامة، فالسيارة التي ننطلق بها إلى هدفنا ليست سوى ما نضعه من قوانين وتشريعات ربما لضبط الأسواق أو جذب الاستثمارات أو لتطوير منظومة التعليم، وقائد السيارة والركاب ليسوا سوى المسئول المنوط به قيادة مجموعة عمل متنوعة الخبرات متفاوتة المهارات.
إدراك المسئول وفهمه العميق لمكونات المنظومة التي يديرها، يرشدانه إلى مواطن الضعف والخلل، ليس المطلوب منه أن يعالج العطل بنفسه، بل أن يحدده ويختار الخبير المتخصص القادر على معالجة الخلل بحرفية.
لم تكن السيارة التي كانت ترتج وتضطرب بكل ما فيها في حاجة إلى تغيير إطاراتها ولا أحد مكوناتها الرئيسية، فقط حقق لها إضافة بعض قطع رصاص تعادل الوزن المفقود وتعيد اتزان إطاراتها أن تنطلق بكل قوتها نحو الهدف.
كذلك لا تستدعي حياتنا الشخصية التي يضربها الاضطراب من حين لآخر كثير تغيير، في كثير من الأحيان يكفي إضافة بعض من قطع رصاص الثقة بالنفس، لتعاود حياتنا اتزانها وننطلق نحو الهدف.