انتقلت إلى رحمة الله تعالى خالتي أم علي يوم الأربعاء 4 سبتمبر 2024م، وتركت في حياتنا فراغًا لا يعوضه إلا طيبة أخلاقها وحُسن تربيتها لأولادها وأحفادها وتواصلها مع أهلها وجيرانها وبمن تربطهم بها صلة الرضاعة... فهي من الجيل الذي حمل على عاتقه المسؤولية المنزلية في الوقت الذي كان فيه الأب ساعيًا إلى طلب الرزق في بلده أو في بلدان أخرى عربية وأجنبية.
كانت خالتي عائشة بنت حسن بن علي بدر الأبنة الثالثة بعد أمي مريم يرحمها الله وخالي علي يرحمه الله، وكانت تساعد جدتي لأمي فاطمة يرحمها الله في أمور البيت، ولم تنلْ نصيبًا من العلم، وكان قدرها أن تتزوج باكرًا من والدي يرحمه الله إبراهيم بن محمد بن صالح الذوادي بعد أن توفت والدتي مريم وكنت بكرها الأول والأخير فأشفق عليَّ الجد والجدة لأمي وخافوا من الضياع فقررا تزويج خالتي بأبي حفاظًا على كيان الأسرة والمولود اليتيم، وإن كانت نساء الحد الفضليات قد تبرعن بإرضاعي وهنَّ من الأهل أو الجيران، فأصبحت أبنًا لهن من الرضاعة فكثر ولله الحمد أخواني وأخواتي في الرضاعة. كانت خالتي شابة لكنها تحملت الكثير من أجل الاهتمام بالبيت ومن ثم إنجاب الأولاد والبنات مريم وعلي وخالد ونوال يرحمها الله ونجيب يرحمه الله ونجمة وانتصار وعفاف ونضال... كانت خالتي تتوق يرحمها الله للتعلم في مدارس محو الأمية، وبالفعل سجلت نفسها لكنها وجدت نفسها غير قادرة على التوفيق بين الدراسة المسائية وتربية الأبناء والبنات فآثرت أن تتعلم من الحياة الدروس ومن تجارب نساء الحد الفضليات فهنَّ نقلن إليها تجربة الحياة.
كانت خالتي تعطف عليَّ كثيرَا، ولما انتقلت من الحد للالتحاق بمدرسة البديع الابتدائية وعشت في بيت الجد محمد بن صالح الذوادي في البديع مع جدتي لأبي لطيفة بنت عامر الذوادي وعمي سلمان وعمي صالح كنت في كل أسبوع من مساء يوم الخميس أزور بيت جدي لأمي حسن يرحمه الله في الحد وأمكث فيه إلى مساء يوم الجمعة لأعود إلى البديع مستقلاً الحافلات الخشبية من الحد فالمحرق فالمنامة فالبديع وكانت هذه هي رحلة أسبوعية علمتني الكثير في الاعتماد على النفس في سن مبكرة، حتى انتقلنا إلى بيت الأسرة في البديع لنعيش جميعًا في بيت واحد إضافة إلى بيت الجد محمد بن صالح الذوادي المجاور للبحر في شمال البديع، فكان البحر مصدر رزق للعائلة.
كنت دائمًا قريبًا من خالتي يرحمها الله استشيرها في كل الأمور، وكنت أعتبرها أختي الكبيرة، بالإضافة إلى كونها خالتي العزيزة وزوجة أبي، فقد صدق الأقدمون عندما قالوا: «أحبك يا خالي فيك ريحة أمي»، فما بالكم بالخالة التي وضعت كل حنانها وعطفها ورعايتها لابن أختها اليتيم وحرصت على تلقيه العلم وكانت خير مشجع لي للذهاب إلى الخارج للالتحاق بالجامعات، واهتمت طبعًا بأولادها وبناتها وتحملت مسؤولية البيت مع والدي الذي كان يسعى لطلب الرزق الحلال طوال النهار.
خالتي يرحمها الله وطدت علاقتها بجيراننا، وكانت الحريصة على زيارتهن واستقبالهن في بيتنا بالبديع، ولم يوقف نشاطها هذا إلا عندما أقعدها المرض، وكانت يرحمها الله وعلى فراش المرض تسأل عن الصغير والكبير وعندما فرضت عليَّ المعيشة أن أتغرب كانت تتحين الفرصة في أن أعود لأزورها، وكنت أنا أيضًا الحريص على تناول غداء يوم الجمعة أثناء تواجدي في البحرين مع الأخوان والأخوات والأهل والأقارب.
إن خالتي عائشة يرحمها الله كانت الحنونة العطوفة المقدرة للعلاقات الإنسانية والروابط الاجتماعية، إنها من الجيل الذي حمل على عاتقه المسؤولية، وكانت مع الزوج تتحمل تبعات الحياة ففي غياب الزوج تحملت المسؤولية، ورغم تعليمهن البسيط وحرصهن على متابعة قراءة القرآن الكريم، خصوصًا في رمضان ومتابعة ما تبثه الإذاعات المحلية والعربية، فكنَّ يحرصن على متابعة البرامج وبالذات التمثيليات الإذاعية حتى جاء التلفزيون فتعلقوا ببرامجه ومسلسلاته.
إنه الجيل العصامي الذي لم يبخل بأي جهد في سبيل إسعاد الآخرين... تحملت خالتي يرحمها الله الكثير من أجل خير أسرتها والمحافظة على الأولاد والبنات والأحفاد مع إنشاء علاقات مع الجيران وتبادل الزيارات بما يحفظ كينونة المجتمع وتربيط الأواصر بين أفراده.
خالتي ومن سبقوها في العمر ومن كان في عمرها حرصن على بناء وتكاتف المجتمع والزيارات التي قمن بها وطدت العلاقات وأرست قيم المجتمع بما يحفظ أمنه واستقراره.
ليس بغريب أن نرى اليوم المرأة في بلادنا تتحمل الكثير من المسؤوليات فهنَّ من مجتمع تربى على التكاتف والتعاون وبذل كل الخير من أجل أن يكون المجتمع في أمن وسلام.
رحم الله خالتي عائشة وأسكنها فسيح جناته، وأنا أرى الوجوه التي أتت للتعزية والتي أرسلت البرقيات والتعازي أدرك قيمة تكاتفنا وتعاوننا في مجتمعنا الآمن تحت قيادة سيدي حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه الذي وجه إلينا كأسرة المرحومة برقية العزاء التي أثلجت صدورنا، وكذلك صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء حفظه الله، وسمو الشيخ عبدالله بن حمد آل خليفة ممثل جلالة الملك المعظم، ورئيس الديوان الملكي معالي الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة، وعموم آل خليفة الكرام والوزراء ورئيس وأعضاء مجلسي النواب والشورى ورجال الأعمال والمواطنين الكرام على مختلف رتبهم ومسؤولياتهم والمواطنين والأهل في مجلس التعاون لدول الخليج العربية والأخوة من بلادنا العربية... فهذه هي مجتمعاتنا التي يجب أن لا يغيب عن بالنا قيمة اللُحمة الوطنية والتكاتف والتعاطف الإنساني النبيل.
ونحن مدينون لكل من أبدى تعاطفًا وأرسل رسائل تعزية تنم عن محبة وتقدير فلكل مواطن الشكر على ما أكدوه من مشاعر صادقة... سنظل نؤمن بأن مجتمعاتنا ولله الحمد بخير، فلنحافظ على تلك العلاقات التي تربطنا وتعزز الأواصر فيما بيننا.. فقد قيل في ثقافتنا القديمة «مالك لك وطيبك للناس».
رحم الله الأجداد والآباء ورحم الله كل من أسدى معروفاً نفع به مجتمعه وأمته..
رحمك الله خالتي أم علي، مثواك الجنة ورضوان النعيم، إنا لله وإنا إليه راجعون.