بحرفية عالية المستوى تكاملت فيها عناصر البناء الدرامي وتناغم معها أداء أطقم التمثيل والإخراج والديكور والإضاءة، دارت أحداث مسلسل (عمر أفندي).
البداية من ذلك السرداب الفاصل بين زمنين يبعدان عن بعضهما البعض ثمانين عامًا، بعبوره من داخل شقة والده المتوفي حديثًا، وجد الشاب نفسه في عام 1943. عاش حياتين منفصلتين، في الأولى كان عليًا وفي الثانية التقط اسمه من على واجهة أحد المحلات، وكعادة أهل ذلك الزمان أُلحق باسمه لقب أفندي، فصار (عمر أفندي).
لكل منا أزمانه الخاصة، نعم أزمان وليس زمنًا واحدًا، نتحرك بينها بيسر وعفوية أحيانًا، وبصعوبة كأنما (نتنفس تحت الماء)، أحيانًا أخرى، زمن نعيش فيه مع الوسط المحيط بنا اجتماعيًا وعمليًا، وأزمان نهرب إليها بالخيال، ولنا في الخيال حياة.
في فيلم المنسي، وفي مشهد بالغ الدلالة والروعة أمام أحد أبراج مراقبة القطارات، يقول عامل التحويلة، الفنان القدير عادل إمام، لسيدة المجتمع، الفنانة يسرا، أنه يعيش في الأحلام كما في الواقع، لم يحرم نفسه من شيء، أكل ولبس كل ما تمنى، وسكن القصور وتقلد وظائف كثيرة هامة وحساسة، ولم يبخل على نفسه بالكرسي الكبير ولا بإلقاء خُطَبَة في الجموع الغفيرة، تقاطعه من حين لآخر موجات تصفيق حار.
بشكل أو آخر احترف علي الهروب من الحاضر إلى الماضي، الهروب من مشاكله مع زوجته ماجي، ومن تهديدات حماه المتواصلة، ومن عجزه الاندماج في الواقع وتحول حياته إلى سلسلة عنقودية من المشاكل، ومن عدم قدرته على ممارسة هوايته المفضلة؛ الرسم، وجد في الماضي امتدادًا لسيرة أبيه العصامي (تهامي) وقربى وتكفيرًا عن عقوقه له إثر اعتراضه على زواجه، حتى أنه توفي دون أن يراه.
لم يكن علي وحده الذي هرب إلى الماضي عبر السرداب، سبقه أباه، في إشارة إلى عادة إنسانية وإلى ارتباط الأزمنة ببعضها البعض، والبحث الدائم عن حياة يجد فيها ذاته ويتصالح فيها مع نفسه ومن حوله.
وجد في الماضي رجل البريد الوطني دياسطي المستعد للتضحية دائمًا، ووجد تاجر المصوغات اليهودي شلهوب الذي يعلن دون خجل دناءة أخلاقه وولعه بالثروة والجنس، وكذلك كان أباظة صاحب الملهى، واحترم كفاح دلال بعد اعتزالها الفن لتعيش حياة كريمة مع ابنتها زينات.
وفي الماضي وجد عمر نفسه مع زينات؛ بنت البلد التي تساعد أمها صباحًا في البنسيون وتعمل مساءً في ملهى ليلي، تطاردها وأمها تهديدات الحجز على البنسيون لعدم قدرتهما سداد ما عليهما من ديون. اقترب عمر من زينات، واقتربت زينات من عمر، جمعهما الحب والرغبة في الهروب من الواقع؛ هربت معه للمستقبل، وهرب معها للماضي.
كانت زينات رمزًا أكثر منها واقعًا، رمزًا لخيال نشتاق إليه إن عز الأليف، ورمزًا لحياة نهرب إليها حين يكوينا جمر الواقع، وحين تعلو أمواج الغربة في بحر الحاضر، أو تصطدم سفن الأحلام بصخور الممنوع والمحظور.
ولأن لعبة الاختيار قدر محتوم، وقف عمر/علي حائرًا ممزقًا تحت المطر بين حبيبته زينات/الماضي وزوجته ماجي/الحاضر، مُشتتًا بين عدم قدرته البقاء في الماضي، وعجز زينات السفر للمستقبل، بينما وقفت ماجي ذاهلة لا تكاد تصدق عينيها.
وإن كان السرداب هو الرمز في المسلسل، فلكل منا سردابه الخاص الذي يتجول من خلاله في زمن نقسمه إلى حاضر وماض ومستقبل، غير منتبهين أننا في ذات اللحظة التي نتطلع فيها صوب المستقبل، يتسرب الحاضر إلى إناء الماضي.. قل لي بالله عليك عزيزي القارئ.. أين نحن من هذا التقسيم الساذج للزمن.