أرسل لي صديق منذ أيام رابطاً لموقع إلكتروني يمكنه استبدال كلمات وعبارات بحث أو مقال أو أي عمل فكري بكلمات أخرى مناسبة للطريقة أو للأسلوب العلمي الأكاديمي، بحيث يكون المحتوى الأصلي بعد إحلال الكلمات الجديدة كأنه مقال أصيل.
أعادني هذا الرابط بالزمن إلى حادثتين؛ الحادثة الأولى عندما كنت طالباً في مرحلة الدراسة، وبالأخص مرحلة الدراسات العليا في مساق مناهج البحث العلمي عندما أكد لنا أساتذتنا أهمية المصداقية والمسؤولية العلمية وذكر المصادر والمراجع العلمية والدراسات السابقة، وضرورة توثيق المادة العلمية التي يكتبها الطالب أو الباحث؛ لأنه حسب اعتقاده «لا يوجد تحت السماء ما هو جديد؛ لأن من سبقونا تناولوا كل شيء»، وفي الجانب الآخر هي من باب الأمانة العلمية.
الحادثة الثانية كانت في أحد منتديات دبي للإعلام، وكان محور النقاش حول صناع المحتوى الإعلامي في وسائل التواصل الاجتماعي، ويومها عقب أحد رؤساء التحرير على هذا المصطلح بأن قال إن المحتوى موجود بالأصل، ولكن هم ينقلون مادة موجودة في الصحافة التقليدية بفهمهم وأسلوبهم.
لكن بعد انتشار هذا الرابط ماذا يمكن أن يكون تعليق الأستاذ الأكاديمي والإعلامي؟ فلم يعد المفكر بشراً. أما عن تعليقي أنا بمجرد أن رأيت الرابط مع العلم أنني من المؤيدين للاستفادة من التطورات العلمية والتكنولوجية، خاصة في ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، تساءلت هل هناك إصرار على ألا يجهد الإنسان نفسه بالتفكير؟ على اعتبار أن كل الأشياء في ظل الذكاء الاصطناعي متيسرة وسلسة، والمطلوب فقط هو إجادة مهارة استخدام التقنية.
منطقياً، «الشك» هو أحد أسس العلم، ولا يمكن الحديث عن تفكير العقل البشري دون أن تبدأ بالشك أو الملاحظة واستخدام التحليل المنطقي، وكل هذا يميز عقل وقدرة شخص عن آخر. والتفكير كما أعتقد هو ما يقودنا إلى التحليل المنطقي المبني على وجود رابط بين الفكرة الرئيسية وباقي العمل الفكري الذي هو المقال أو البحث.
هنا ومن وجهة نظري، من دون وجود المنطق في أي عمل أو كلام فإنك لن تستطيع الوصول إلى استنتاجات مرتبطة بالعمل الذي يقوم به الباحث ولا حتى أن تكون مقنعاً.
والذكاء الاصطناعي يفترض أنه جاء ليساعد العلم القائم على التفكير في تحسين إنتاجه وإيجاد الحلول، ولكن يبدو أنه سيعمل مع البعض (أتمنى أن يكونوا قلة) على إراحة العقل البشري من التفكير كاملاً، وهذه ليست ميزة بقدر ما أنها قد تستغل من قبل البعض لأهداف شخصية بعيداً عن أخلاقيات العلم الذي يقود للمعرفة؛ لهذا نجد اتساع مسألة المطالبة بإيجاد أطر قانونية للحد من استغلال هذا القادم، بل الحاضر الجديد في الثورة المعرفية.
ما يبدو لي كأن تفاصيل الكون كله أُوكلت إلى العقل الرقمي، الذي يفتقد إلى منهج «الشك» الذي وضعه الفيلسوف الفرنسي ديكارت، الذي لخصه في جملة صغيرة: «أنا أشك إذاً أنا أفكر إذاً أنا موجود»، وأظن لو كان بيننا ديكارت حياً لانتحر أو مات قهراً.
فمن جانب أصبحت الحروب تتم بالذكاء الاصطناعي، والعمليات الطبية لم تعد معقدة ولم تعد تعطي ميزة إضافية لمتخصص على آخر؛ لأن المهارة لم تعد في طريقة التفكير وإنما في القدرة على استخدام الذكاء الاصطناعي والخوارزميات.
علينا ألا نندهش كثيراً بعالم الذكاء الاصطناعي مستقبلاً وإسهاماته العلمية؛ لأن قمة العمل في هذا الكون هي التفكير البشري، وطالما أصبح لدينا «عقل رقمي» فعلينا أن لا نريح عقولنا ولا نترك المجال للذكاء الاصطناعي ليقوم به حتى لا نفقد مهاراتنا وقدراتنا على التفكير ولا نخسر لياقتنا الذهنية، ولنعلم أن «العقل الرقمي» فقط ليسهل حياتنا ويختصر مدة إنجازنا وليزيد جودة ودقة أعمالنا، أما العقل البشري فهو الأهم والأصلح للبشرية، وهو الذي صنع وأوجد العقل الرقمي، وهو الأعظم لمن يستفيد منه.