علم المكتبات والمخطوطات والوثائق من العلوم التي تطورت كثيراً منذ القدم، وصولاً إلى العصر الرقمي الحديث. وانتسب في بداياته إلى العلوم الاجتماعية أو إلى الآداب، مع التركيز آنذاك على الأساليب والإجراءات الإدارية والنظم الفنية، شاملة الفهرسة والتصنيف، من أجل بناء مجموعات مكتبية وتنظيمها.
لكن بمرور الوقت وتقدم العلم والتكنولوجيا وتزايد حاجة الناس إلى المعرفة والتواصل بشتى صورها، تطور علم المكتبات، ودخلت فيه وظائف أخرى خاصة بالمخطوطات والوثائق، وحتى دراسة النقود والمسكوكات بما تحمله من نقوش وكتابات وتواريخ، بل صارت له قواعد مقننة دقيقة ونظريات راسخة، تهدف في مجموعها إلى تيسير الحصول على المعرفة الإنسانية وبثها بين الأفراد والمجتمعات بعد تجميعها وضبطها وفحصها وتوثيقها وحفظها.
تلك كانت توطئة لتناول سيرة شخصية رائدة من رواد علم المكتبات والمخطوطات والوثائق العرب هو الدكتور عبدالستار الحلْوَجي (بتسكين اللام وفتح الواو) الذي سوف نستند في رواية سيرته على مجموعة من المصادر المتنوعة، علاوة على كتاب عن مشواره العلمي والوظيفي صدر في عام 2018 تحت عنوان «أقدار؛ سيرة ذاتية».
ولد «عبد الستار عبد الحق عبد الحي الحلوجي» بمحافظة الدقهلية المصرية في 2 مايو 1938، لأسرة جل أفرادها من خريجي الأزهر الشريف، وهو ما أثر على نشأته نشأة دينية معتدلة ومنفتحة مع شغف باللغة العربية وآدابها. وحينما أنهى دراسته الثانوية بالقسم العلمي، أراد أن يلتحق بكلية الطب، لكن مجموعه وقف حائلاً دون قبوله، فأعاد سنته التوجيهية على أمل الحصول على مجموع درجات أعلى، وهو ما لم يتحقق.
هنا، وبسبب شغفه باللغة العربية، وإجادته كتابة المقالات كهواية في مرحلة الدراسة الثانوية، وولعه بكتب ومحاضرات الدكتور طه حسين، التحق بكلية الآداب في جامعة القاهرة التي كانت تسعى وقتذاك لجذب خريجي الثانوية لدراسة علم المكتبات والصحافة واللغة العربية، فاختار دراسة اللغة العربية، وتخرج سنة 1958 حاملاً ليسانسها، ونظراً لعدم حصوله على فرص وظيفية آنذاك عدا التدريس، اضطر للالتحاق بكلية التربية في جامعة عين شمس التي حصل منها على دبلوم التربية العام سنة 1959 ثم دبلوم التربية الخاص سنة 1960، وكان ترتيبه ضمن العشرة الأوائل.
وشاءت الأقدار أن تعرض وزارة التربية والتعليم في تلك الفترة بعض البعثات الحكومية إلى الخارج، وكان من بينها بعثة استهوته إلى إيطاليا للتخصص في ترميم المخطوطات، لكن الأقدار تدخلت مرة أخرى، فلم يحصل على مراده وابتعث بدلاً من ذلك إلى إنجلترا لنيل درجة الماجستير في علم المكتبات.
سافر الحلوجي إلى إنجلترا عام 1960، وحصل من جامعة لندن على ماجستير مكتبات سنة 1963، ثم عاد إلى القاهرة وهو متحمس لمواصلة دراسته في التخصص نفسه بجامعة القاهرة التي منحته درجة الدكتوراه في المكتبات سنة 1969.
في عام 1964 بدأ صاحبنا مشواره الوظيفي، فترأس قسم فهرسة المخطوطات وأمانة مركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية من 1964 إلى 1967، وتولى التدريس بقسم المكتبات والوثائق بكلية الآداب في جامعة القاهرة من 1970 إلى 1975، ثم صار أستاذاً مساعداً سنة 1975، وأستاذاً سنة 1980، ورئيساً لقسم المكتبات والوثائق بالجامعة من 1984 إلى 1985، وشغل المنصب نفسه مجدداً ما من 1990 إلى 1994.
وما بين 1994 و1998 شغل منصب وكيل كلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم شغل منصب عميد كلية الآداب بجامعة بني سويف من 1998 إلى 2000، وترأس قسم البحوث والدراسات التراثية بمعهد البحوث والدراسات العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم من 2013 إلى 2017.
وخلال تلك السنوات انشغل بتأليف العديد من الكتب في مجال تخصصه، وترجمة المؤلفات الأجنبية، ونشر أكثر من خمسين بحثاً علمياً في الدوريات المصرية والعربية منذ عام 1967.
من مؤلفاته: الزبيري شاعر اليمن، مع الملاح التائه علي محمود طه، لمحات من تاريخ الكتب والمكتبات، مدخل لدراسة المراجع، المخطوط العربي، الخدمة المكتبية الريفية، قراءة في أوراق جامعية، دراسات في الكتب والمكتبات، المخطوطات والتراث العربي، الكتب والمكتبات بين القديم والحديث، نحو علم مخطوطات عربي، مصادر التراث العربي الإسلامي، تحقيق ونشر المخطوطات، أقدار؛ سيرة ذاتية. إلى ذلك قام في عام 1971 بالاشتراك مع علي عبد المحسن زكي بتحقيق كتاب «عمدة الكتاب وعمدة ذوي الألباب» المنسوب للمعز باديس.
ومن ترجماته: «المخطوطات الإسلامية في العالم» لجيفري روبر (أربعة مجلدات)، «مصادر دراسة التاريخ الإسلامي» لجين سوفاجيه، «الكتاب في العالم الإسلامي» لجورج عطية.
في كتابه «أقدار؛ سيرة ذاتي»، خصص الصفحات من 163 إلى 195 لرواية رحلته وعمله في السعودية معاراً من جامعة القاهرة للتدريس بكلية اللغة العربية التابعة للرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية بالرياض (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لاحقاً).
يقول صاحبنا إنه بعد عمله في التدريس لمدة عامين بجامعة القاهرة، طلب للتدريس في تلك الكلية بالرياض لأن عميدها آنذاك الدكتور عبدالله بن عبد المحسن التركي كان يفكر حينذاك بإنشاء قسم للمكتبات، فقرر أن يتعاقد مع أحد أعضاء هيئة التدريس المتخصصين في هذا المجال لتأسيس القسم.
ويضيف إن جامعة القاهرة لم توافق على الإعارة لأن القانون لا يسمح بإعارة عضو هيئة التدريس إلا بعد 3 سنوات من العمل على الأقل، ويستطرد الحلوجي فيقول إنه أجّل رحلته إلى السعودية لعام آخر بسبب دراسة ابنته بمدرسة الراهبات الفرنسيسكان وتعلقها بهذه المدرسة. وهكذا فإنه حينما قدمت الكلية السعودية مجدداً طلب الإعارة كان صاحبنا مستوفياً لشروطها.
وهكذا سافر إلى الرياض سنة 1973 مصطحباً أسرته، فوصلها في وقت كانت فيه الرياض بمطار صغير متواضع، ومساجد غير مكيفة أو مفروشة بالسجاد الفاخر وغير مزودة بدورات مياه وأماكن للوضوء، وشوارع ضيقة غير مسفلته، «بل لم تكن بها شوارع رئيسية سوى شارع الوزير وشارع البطحاء وشارع المطار وشارع الشميسي وشارع الخزان، ولم يكن بها أسواق أو مولات، وكان أشهر مكان للتسوق شارع صغير وقصير يسمى شارع الثميري يصل بين شارع الوزير وقصر الحكم، وكانت فنادق المدينة صغيرة ومتواضعة، وكان فندق اليمامة بطريق المطار أفخم فنادقها».
وعن حالة الكلية التي استدعي للعمل بها قال واصفاً: «كان مبنى الكلية أشبه بمباني المدارس الثانوية، وكانت به حجرة يسجل فيها الغياب، وكان الجرس يدق إيذاناً بانتهاء الحصص، ويتوسط اليوم الدراسي فسحة قصيرة، وكانت الدراسة تبدأ في السابعة صباحاً وتنتهي قبيل صلاة الظهر».
في سنته الأولى بالرياض، واجهته بعض التحديات والمنغصات، ومنها أنه طلب منه تدريس مواد خارج تخصصه العلمي في المكتبات فرفض إلى أن تم الاتفاق على أن يقتصر عمله على تدريس مادة المراجع لقسمي اللغة العربية والمواد الاجتماعية.
ومنها أيضاً مسألة إلحاق أبنائه بالمدارس السعودية، حيث لم يجد صعوبة في إلحاق ابنه بالمدرسة التذكارية الابتدائية، لكنه وجد صعوبة في إلحاق ابنته بمدرسة تابعة لرئاسة تعليم البنات، بسبب قدومها من مدرسة راهبات مصرية، حيث كان السؤال «كيف درست في مدرسة راهبات وهي مسلمة ابنة مسلم؟».
وقتها بذل صاحبنا جهداً لإقناع المسؤولين أن مدرسة الراهبات تلك لا دخل لها في الدين، وأنها تضم مسلمات ومسيحيات، إلى أن نجح في إلحاقها بالسنة الرابعة الابتدائية في «المدرسة التاسعة والعشرون».
من التحديات الأخرى التي واجهها ذلك الخاص بالزي الذي يرتديه أثناء التدريس في مكان كان فيه الجميع يرتدون الثياب العربية والغترة. يقول الحلوجي ما مفاده إنه رغم قناعته بأن الثوب هو الأنسب لمناخ المملكة، ورغم حقيقة أن الثوب لم يكن غريباً أو جديداً عليه، إلا أنه لم يتحمس له بسبب ضرورة ارتداء الغترة معه، إذ وجد أن الغترة تشكل قيداً على حركته لأنه ليس معتاداً عليها. ثم تبين له من زملائه ومن إدارة الكلية أن الزي أمر متروك للمدرس ولا يضير لو قام بالتدريس بالزي الإفرنجي.
يعترف الحلوجي أنه قضى في كلية اللغة العربية بالرياض أربعة أعوام كانت من أجمل سنوات عمره، قام خلالها في سنته الأولى مع زملاء آخرين بالتخطيط لإنشاء قسم المكتبات، وفي سنته الثانية بدأ العمل بالقسم كعضو في هيئة التدريس، وفي العامين التاليين عاصر نمو القسم وتوظيف المزيد من الأساتذة العرب للعمل في فروعها المختلفة.
وإبان ذلك تم تكليفه بإلقاء بعض المحاضرات العامة كجزء من تقليد اعتادت عليه الكلية، فكان يختار موضوعاتها بدقة ويجيب على ما يثار حولها إجابة العالم المتمكن، فقوبلت محاضراته بالاستحسان والثناء من قبل طلبة الكلية وعميدها الدكتور التركي.
وانتهز صاحبنا فرصة تواجده في السعودية فأدى مناسك الحج أكثر من مرة كان أولاها في سنته الأولى مع أسرته وعدد من زملائه عن طريق البر بواسطة حافلة صغيرة قادتهم إلى مكة أولاً ثم إلى المدينة المنورة.
وقد وصف رحلته تلك بالشاقة لكنه استدرك قائلاً إنها: «كانت ممتعة حقاً ورؤية الكعبة المشرفة لا يمكن وصفها بكلمات». كما أن صاحبنا استدعى إلى السعودية والديه للزيارة وأداء فريضة الحج، فقضى معهما في الرياض أوقاتاً وصفها بأجمل الأيام، ثم صحبهما لأداء الحج بمكة.
أمضى الحلوجي سنوات عمله بالرياض دون حدوث ما يعكر صفوه، باستثناء واقعة اصطدامه مع وكيل الكلية الشاب «ناصر الطريفي»، والذي تدخل في عمله خلال مراقبة الامتحانات واتهمه بعدم الانضباط في مسؤولياته.
وهو ما أغضب صاحبنا ووجده إهانة لكرامته وعلمه، فكاد أن يقدم استقالته ويعود إلى مصر لولا قيام عميد الكلية الدكتور عبدالله التركي بتطييب خاطره، ولولا إعفاء الطريفي من منصبه في نهاية تلك السنة. ويتذكر من تلك المرحلة أيضاً أن اثنين من طلبته (علي النملة وعجلان محمد العجلان) عينا معيدين بقسم المكتبات، وطلب منه الإشراف عليهما إلى حين ابتعاثهما إلى الخارج.
يقول الحلوجي إنه اقترح آنذاك على مدير الجامعة وبذل جهداً كي يكون ابتعاثهما إلى الولايات المتحدة فتمت الموافقة على اقتراحه، وتخرج الطالبان وعادا من هناك حاملين الدكتوراه ليصبح الأول وزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية والثاني عضواً بهيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود وعميداً لشؤون المكتبات.
وبهذا لعب صاحبنا دوراً في كسر حاجز الخوف لدى الجامعة لجهة ابتعاث طلبتها إلى الولايات المتحدة خوفاً من تأثرهم بثقافة الغرب، حيث كان مثل هذه الأمور يحتاج في الماضي إلى موافقة مسبقة من المشائخ أعضاء مجلس الجامعة.
ومن الأدوار التي لعبها أيضاً التصدي لبعض من زملائه المتعاقدين الذين تقدموا باقتراح إلى الدكتور التركي حول استحداث مادة جديدة باسم «النقد الإسلامي»، حيث رفض الحلوجي الفكرة موضحاً أنه لا يوجد شيء اسمه نقد إسلامي أو مسيحي أو يهودي، «فالنقد هو نقد أدبي فقط تطبق معاييره على أي أدب من الآداب».
في صيف 1975، خلال فترة إعارته لجامعة الإمام، وافقت جامعة القاهرة في سنة 1977 على ترقيته من مدرس إلى أستاذ مساعد، فعاد لوطنه. لكنه بعد أربع سنوات طلبت جامعة الإمام إعارته مجدداً ليعمل أستاذاً ورئيساً لقسم المكتبات، فوافقت جامعة القاهرة على إعارته، لولا أن زميلاً له تدخل قائلاً إنه أولى بالإعارة، فألغت الجامعة موافقتها السابقة.
وفي عام 1985 طلبته جامعة الإمام مجدداً، فوافقت جامعة القاهرة على ذلك، لكنه فوجئ بعرض أكثر إغراءً للعمل بكلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة الملك عبد العزيز بجدة، حيث قضى هناك 5 سنوات من حياته بمفرده وكان يزور القاهرة كل شهر.
في عام 1998 عاد الحلوجي إلى السعودية، لكن هذه المرة لاستلام جائزة الملك فيصل العالمية التي فاز بها في مجال الدراسات الإسلامية. ومن الجوائز الأخرى التي نالها: الجائزة التقديرية لجامعة القاهرة في مجال العلوم الإنسانية والتربوية سنة 2006، وجائزة القاهرة للتميز العلمي في مجال الإنسانيات سنة 2009.