كعادته، يبادر الأستاذ الدكتور حافظ السلماوي، الرئيس الأسبق لمرفق تنظيم الكهرباء، والأستاذ بكلية الهندسة جامعة الزقازيق، بنثر تعليقات ثاقبة تتميز بإطلالات أنيقة.
تعقيبًا على مقال الأسبوع الماضي (المباراة والاغتيال.. أهي مجرد مصادفة)، لفت سيادته الانتباه إلى ارتفاع نسب استثمارات الدول النامية في الوسائل عنها في البشر، الأمر الذي يحصر ذوي المهارات المتميزة في زوايا ضيقة تختنق فيها مساحات إبداعهم وتعيقهم عن التحول من المحلية إلى الدولية.
أعادتني الملاحظة إلى مقال سبق نشره في ذات الزاوية منذ أكثر من عامين بعنوان (عيد جلوس الملكة.. القوة الناعمة أولاً)، اختتمته بسؤال عن اكتشاف الموهوبين من قبيل اللاعب محمد صلاح، مفاده، (تُرى كم ألف صلاحٍ مرق من أمام عيوننا ولم ننتبه).
انغرس نصل السؤال في لحم الحقيقة المرة ونكأ جُرحا طريًا لا يندمل رغم قِدَمه، فتتابعت آهات الألم تردد؛ ألف ألف صلاح، مسترجعةً من تحت ركام الأسي أمثلة شتى.
ما أن وقعت عينا النقيب عمرو رجائي على المجند علي إبراهيم، حتى أيقن أنه أمام مشروع لاعب تجديف متميز، بنيان جسماني وعضلي شَكَلهُ العمل في فلاحة الأرض الطيبة. شاب بسيط تلقى قدرًا يسيرًا من التعليم، يتركز كل طموحه، بعد إنهاء خدمته العسكرية، على زراعة الأرض وأن تسرح جذوره في تربتها الطيبة إلى جوار جذور الآباء والأجداد.
حمل علي مخلته على ظهره ومضي خلف النقيب عمرو وغادر معسكر الأمن المركزي وانضم إلى نادي التجديف بالقاهرة.
كانت تلك أول مرة يسمع فيها عن نادي ولعبة بهذا الاسم، التزم بتوجيهات رجائي، اعتبرها أوامر عسكرية صارمة، ليحقق المفاجأة ويفوز بعد ستة أشهر فقط من التدريب المكثف ببطولة الجمهورية، ثم تتابعت البطولات الإفريقية والعالمية، مما أهله لحمل علم مصر في طابور العرض ببطولة أولمبياد بكين 2008، وعندما قرر الاعتزال عمل مُدربًا لنادي اتحاد الشرطة.
وكما اكتشفنا أسطورة التجديف علي إبراهيم صدفة، فقدناه في فوضى حوادث السير أثناء عبوره الشارع عام 2010.
وهنا تضعنا صدفة الاكتشاف أمام ألف "لو ولو"، ماذا لو كان علي في اجازة أو مأمورية يوم مرور النقيب عمرو؟، وماذا لو لم ينتبه له النقيب عمرو؟.
الموارد البشرية كنز. والعين الخبيرة القادرة على استخراج كل نفيس كنز. والمناخ الإيجابي الحاضن للمواهب القادر على إطلاق عنان الخيال والتفكير والعمل إلى أقصي حدود القدرات البشرية شرط للنجاح.
كل الأفكار التي غيرت مسار البشرية وحققت نقلات نوعية في تاريخ الحضارة الإنسانية جاءت من موهوبين رأوا أحلامهم واقعًا وكانت لديهم القدرة على العمل والمثابرة ومواجهة التحديات. إذ لا شيء يأتي سهلاً.
اكتشاف نظائر علي إبراهيم ومحمد صلاح، والدكتور أحمد زويل والدكتور فاروق الباز، والسير مجدي يعقوب، وغيرهم في شتى المجالات، لا يأتي بالصدفة. كان هناك من انتبه مبكرًا لإمكاناتهم وساعدهم في السير على الطريق، في المقابل بذلوا جميعًا من الجهد والعرق ما جعلهم يتخطون أحلامهم.
يقول الدكتور محمود محيي الدين، المدير التنفيذي بصندوق النقد الدولي، بأن قواعد لعب كرة القدم في مصر هي ذاتها في كل دول العالم، ومن ثم فإن نجومية صلاح لا ترجع للقواعد، إنما لتمتعه بمهارات خاصة عكف على تطويرها بشكل مستمر في بيئة مُحفزة وجدها في الدوري الإنجليزي الجاذب للعديد من نجوم العالم.
وكما تتنافس الدول على الموارد الطبيعية، تتنافس أيضًا على الموارد البشرية. أكثر من 25% من العلماء في كل من أوروبا وأمريكا من المهاجرين؛ تُرى لو كانوا استمروا في بلادهم، هل كانوا سيحققون نفس الإنجازات؟ سؤال تتأرجح إجابته بين طرفي نقيض.