كان مشهد انكسار مغني الربابة في فيلم "زقاق المدق"، المأخوذ عن رواية أديب نوبل نجيب محفوظ، عندما صده صاحب المقهى وأخبره استغناءه عن خدماته بعد شرائه مذياعًا، بالغ التأثير، أشار في طياته إلى تآكل فرص العمل مع تقدم التكنولوجيا.
تداعى المشهد على ذاكرتي وأنا أقرأ كتاب "عالم بلا عمل World without Work" الصادر عام 2016 عن جامعة ريتريت الأمريكية، يضم الكتاب مقالات بأقلام أكاديميين متخصصين بهدف استشراف المستقبل وتقديم ورقة عمل لمتخذ القرار تمكنه من التخطيط للمستقبل.
في هذا الصدد، ينصح الكتاب الحكومات بالعمل على محورين رئيسيين لمجابهة التطور المتسارع للتكنولوجيا، الأول الاستثمار في البشر من خلال قطاع تعليم واعٍ بصعوبة التنبؤ بالتطورات التكنولوجية، وأن التلميذ الذي يتلقى علومه في المدرسة اليوم ربما يعمل، بعد تخرجه، في مجال لم يسمع عنه من قبل.
من ثم، يتحتم على نظم التعليم تدريب الطلاب على مهارات التطوير الذاتي ومواكبة تحولات التكنولوجيا لتجنب فقدان الصلاحية للعمل.
المحور الثاني، صياغة نظام اجتماعي قادر على حماية الأفراد ضد التغيرات الاقتصادية، تحكمه أطر قانونية شفافة وسياسات تحفيز محايدة، يضم مؤسسات تعليم متنوع ومتميز.
وتحت عنوان "استحالة عالم بلا عمل وتحدياته The Impossibility and Challenges of a World without Work"، يشير المؤلف إلى ريادة شركة جوجل في مجال السيارات ذاتية القيادة وكذلك تخوف الكثيرين من تقلص فرص العمل متناسين ما مرت به البشرية من تجارب سابقة حلت فيها الآلة محل الإنسان؛ حيث أدى اختراع آلات الحصاد الزراعي إلى ارتفاع مستويات الانتاجية وتحول فئات عديدة إلى القطاع الصناعي، وزيادة معدلات توظيف النساء.
كذلك فتحت ثورة الاتصالات فرص عمل في شتى المجالات؛ صار لدينا أسواقٌ افتراضية تعمل على مدار الساعة وتمتد فروعها في جوانب الكرة الأرضية، إلى جانب خدمات افتراضية من قبيل حجز الفنادق والرحلات، والتعليم والتطبيب عن بعد، وغيرها من الخدمات.
باتت البرمجيات والروبوتات تسيطر على مفاصل حياتنا الشخصية والعملية، وتحول الإنسان في بعضها إلى ضيف ثقيل.
بلا شك، تساعد أمثال هذه الكتب والدراسات في رسم المستقبل متى أُحسن استقبالها بالمناقشات العلمية الرصينة؛ يذكرني ذلك بتقرير التقييم الذي طلبه الرئيس الأمريكي رونالد ريجان ذات يوم عن التعليم، حيث استقر فيه رأي الخبراء المشاركين في إعداده بعد ما اكتشفوا الهوة الكبيرة بين نظام التعليم الأمريكي ونظرائه في الدول الأوربية والآسيوية، إلى عنوان واحد؛ "أمة في خطر A Nation at Risk"، قدموا في نهايته اقتراحاتهم لتطوير المحتوي التعليمي، والمعايير، والدعم المالي، وإعداد المُدرسين، وغيرها، لتنكفئ على إثر ذلك المؤسسات التعليمية تراجع استراتيجياتها ونظمها وتطورها.
من هنا تبدو الفرضيات والأسئلة التي يطرحها الكتاب فرصة لشحذ التفكير في مناخات اعتادت النظر خارج الحدود واقتراح حلول غير تقليدية، أما عن ظهور متفائلين ومتشائمين مع كل نقلة تكنولوجية فهذا أمر طبيعي، كما أن حركة الكون لا تتوقف سواء تقدمنا أو تأخرنا، الفارق أننا متى استوعبنا مفردات التكنولوجيا وشاركنا في صياغتها تقدمنا، في حين ينزلق العاجزون إلى نحو خط الفقر ليصيبهم ما أصاب مغني الربابة ذات يوم، وما سيصيب سائق السيارة عندما يخبره صاحبها أنه استغنى عن خدماته أيضًا بعد شرائه سيارة ذاتية القيادة، وعلينا أن نختار كما يقول نزار قباني: (لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار).