لم يكن الأستاذ أنيس منصور (1924-2011) يكتب لأكثر من أربع ساعات يوميًا، يبدأ في السادسة صباحًا من غرفة مكتبه ببيته المطل على النيل، حتى إذا ما دقت العاشرة وضع القلم ونهض وارتدي ملابسه وتوجه إلى مكتبه بجريدة الأهرام، ومع هذا فقد ترك لنا قرابة المائتي كتاب تنوعت بين الرواية وأدب الرحلات والسياسة، فضلاً عن المقالات ومقدمات الكتب.
ذكر ذات مرة أن إعجابه وانبهاره بالعقاد شغله عن طه حسين، حتى أنه كان إذا فتح الجريدة ولم يجد فيها مقالاً للعقاد ألقاها جانبًا، كان يرى فيه مفكرًا، ويرى في طه حسين أديبًا، وأن طباع كلا الشيخين قد انعكست في كتاباتهما.
ولعلك سيدي القاريء تجد ذلك جليًا واضحًا في كتاباتهما النقدية، فالعميد، الهادئ الطبع الميال إلى اللين كان إذا شرع في النقد رش المعطرات وأرسل موسيقى كلمات شجية تتناسب مع الموضوع ثم يمضي إلى حيث يريد بالمشرط في يمينه والملقاط في شماله، بينما المريض ساج في سريره لا يشعر به ولا بما يفعله، حتى لتظنه من أولئك الذين وصفتهم الآية الكريمة (كأنما سُكرت أبصارُنا، بل نحن قوم مسحورون).
بينما العقاد الحاد الطبع، الآخذ نفسه بالشدة، الـمُعنف لها أشد ما يكون التعنيف إن قصرت، كان إذا انتقد استخدم الساطور استخدام البارع المتقن عمله، حتى إذا ما انتهى من ضحيته ورجع بظهره ترك خلفه أطلالاً وحطامًا.
ولعل فينا من ينكر هذا الوصف للأستاذ العقاد، وهو من هو من حيث المكانة الفكرية والأدبية، ليس في نفسي فقط، بل وفي نفوس آخرين، حتى أنني لأضعه في مكانة يصعب أن يقاربها كُتاب آخرون، فينكر وصفي السابق من باب الرهبة لا من باب النقد البناء الضارب في طبقات أرض الاحترام والتقدير.
ومن أمثال مواقفه ما كان مع الملك فؤاد الذي أراد إسقاط عبارتين من الدستور، تنص إحداهما على أن الأمة مصدر السلطات، والأخرى أن الوزارة مسئولة أمام البرلمان، فما أن ارتفع صوت العقاد في البرلمان رافضا ذلك مهددا بقوله (وليعلم الجميع أننا مستعدون لسحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته)، حتى أُحيل إلى النيابة للتحقيق معه بتهمة العيب في الذات الملكية، وانتهى الأمر بأن حُكم عليه بالحبس تسعة أشهر.
وعندما زاره وزير الداخلية؛ علي ماهر باشا، في سجن القلعة وسأله إن كان له حاجه؟، فأجابه من وضعه ممددًا على السرير وقد وضع ساقًا على ساق وفي يده كتاب، أن يتنحى جانبًا ويسمح لضوء الشمس أن يصل إليه حتى يكمل قراءة كتابه.
ومن نوادر مواقفه مع أنيس منصور، عندما نشرت الصحفية مديحة عزت بمجلة روزاليوسف حديثًا صحفيًا مع العقاد وسألته عن رأيه في أنيس منصور، فأجابها مستنكرًا؛ (من هذا الأنيس منصور؟)، فاغتاظ الأخير، خاصة أن كان قد مضى على معرفته الشخصية بالعقاد أكثر من عشر سنوات، فضلاً عن حضور صالونه الأدبي الأسبوعي ببيته في مصر الجديدة، أصدر عنه لاحقًا كتابًا قيمًا بعنوان (في صالون العقاد.. كانت لنا أيام)، فاتصل به يلومه، فأنكر العقاد وقال (لا تصدق مديحة، إنها تكذب وتدعي)، فأسرها أنيس في نفسه وكتب مقالاً بعنوان (عباس محمود العضاض) اقتص فيه لنفسه، فاتصل به العقاد غاضبًا، فما كان من أنيس إلا أن أعاد عليه جوابه السابق ورد بهدوء (لا تصدق مديحة، إنها تكذب وتدعي).