عديدة هي أساليب كتابة السير الذاتية، منها ما يتستر بها الكاتب خلف شخوص رواياته ومنها ما يعمد إلى الحكي المباشر؛ العقاد في (سارة)، ويوسف عز الدين عيسى في (لا تلوموا الخريف)، وتوفيق الحكيم في (عصفور من الشرق)، ويوسف إدريس في (البيضاء)، وغيرهم كتبوا سِيَرَهم عبر شخصيات رمزية في رواياتهم.
في حين عمد طه حسين في (الأيام)، ومولانا الشيخ عبد الحليم محمود في (الحمد لله هذه حياتي)، والسياسي عمرو موسى في (كتابيه)، والكاتبة رضوى عاشور في روايتيها (أثقل من رضوى والصرخة)، وكذلك زوجها مُريد البرغوثي إلى أسلوب الحكي المباشر.
ترك مُريد رام الله ليكمل تعليمه في مصر، وبينما يعد حقائبه ليعود إلى بيته بعد تخرجه وقعت نكبة سبعة وستين، وبعد ما كانت المدينة على مرمى حجر، صارت طيفاً يشاغبه في اليقظة والنوم، بعد ما استحال مقاربتها في الواقع. صارت سوطاً يُلهب ظهر القصيدة.
بعد نحو ثلاثين عاماً، اُتيح لـمُريد زيارة المدينة، فَصَدَرَ روايته (رأيت رام الله) بعبارة شعرية (العالم كله خلفي وعالمي أنا أمامي).
نَحنُ إلى مواطن الميلاد، حتى وإن كانت حفنة من رمل أو بيتاً من طين أو طريقًا من حصى.
يسترجع مُريد في روايته وجوه عائلته، وأصدقاؤه، وجيرانه، وفنانين، وسياسيين، وآخرين. تتشابك كل الوجوه مع الهم الفلسطيني. بداية من الشرطي منزوع الصلاحيات الـمُرابط على الحدود إلى ناجى العلى، جلاد الكاريكاتير العربي وشخصيته الخيالية؛ حنظلة، التي صارت شخصية يخشاها الساسة وتجار الشعارات.
يقول مُريد (زيت الزيتون للفلسطيني هو هدية المسافر.. زينة متاع العروس.. مكافأة الخريف.. ثروة العائلة عبر القرون.. هو الفلاحات في مساء السنة).
للزيتون دلالاته الخاصة لدى البيت الفلسطيني، يدوم الخير ما دام الزيتون، ويدوم البقاء ما دامت أشجاره وارفة ومثمرة، تسافر جذورها في الأرض لتُخبئ فيها حكايات الوطن، توشوش للطين بأسرارها.
من الصعب أن يتخيل الفلسطيني شجرة زيتونه تُقلع من أرضه، أو تجف جذورها وجذوعها فتذوي وتموت، فكما عنون الكاتب التونسي، عبد القادر بن الحاج نصر، روايته (الزيتون لا يموت)، والتي جَسدَ فيها بطولات التصدي للاحتلال الفرنسي لتونس، ليجعل من تلك الشجرة المباركة، الزيتون، رمزاً للوطنية، والشجاعة، والصمود في وجه الظلم. ولأن الزيتون لا يموت، يوقن مُريد بعودة رام الله، فمع كل صباح يولد من رحم الشمس أمل جديد، ينسج الأطفال من خيوطها مدناً ذهبية يعمرونها بالحكايات والأمنيات.
على الطريق من أريحا إلى رام الله، تُشير الأعلام الإسرائيلية إلى مواقع المستوطنات. في الثقافة الشفهية الساذجة يظن البعض أن المستوطنات ليست سوى عدة مبان متناثرة يحمل سكانها البنادق ليل نهار، لكنها في الواقع كيان متكامل يحيط بالجميع، كل الطرق المؤدية إليها والخارجة منها تُقام على رؤوسها نقاط تفتيش وحواجز أمنية.
يعلق مُريد على جندي إسرائيلي واقف على الحدود شاهرًا سلاحه، (بندقيته هي التي أخذت منا أرض القصيدة وتركت لنا قصيدة الأرض.. في قبضته تراب وفي قبضتنا سراب). كان كلما تأمل واقعه تذكر مقولة الأعرابي الساذج قليل الحيلة (أشبعنا العدو شتمًا وفاز بالإبلِِ).
قُبيل رحيله في فبراير 2021، عايش مريد آلام قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، حولها الرجل بجرة قلم إلى خطوط باهتة على الحيطان، نرسمها في الصباح على خرائط الوطن المسلوب بدماء الشهداء في الصباح ودموع الثكالى في المساء.
في العادة تنتهي الصراعات المزمنة بأحد طريقتين، إما القبول بنتائج مائدة التفاوض أو فناء أحد الجانبين.. أخشى أن يكون للبديل الثاني أولوية التنفيذ لدى السيد الجديد.