
كان من عادة الموسيقار محمد عبد الوهاب (1902-1991) أن يُقبل عيني والدته قبل خروجه للعمل، ليظفر برضاها مع دعوات لا يُسد في وجهها باب؛ من قلبها إلى رب العالمين مباشرة، وبينما هو مشغول بتقبيلها تبتهل في سرها ألا يفرق الله بينها وبين ابنها.
إلى أن جاء يوم قالت له بصوت يفيض حبًا وحنانًا وقلقًا (بلاش يا محمد تبوسني في عنيا، دول بيقولوا البوسة في العين تفرق)، فيضحك عبد الوهاب ضحكته السينمائية الشهيرة ويأخذها في حضنه، ويغمر وجهها ورأسها وعينيها بالمزيد من القبل.
في ذلك الوقت كان عبد الوهاب يستعد لتصوير فيلم (ممنوع الحب)، أمام المطربة رجاء عبده، المأخوذ عن قصة وليم شكسبير "روميو وﭼوليت" مع بعض التصرف؛ فعزيز وفكرية اللذان تقابلا صدفة في القطار وجمع بينهما الحب وقفت أمام رغبتهما في الزواج صراعات قديمة بين الأسرتين، لكنهما لا يستسلمان لليأس ويبذلان محاولات عديدة لتجاوز تلك الخصومة والتقريب بين الأسرتين وينجحا في مسعاهما ويتزوجان، على خلاف القصة الأصلية التي انتهت بموت الحبيبين.
وعندما بدأت جلسات العمل في الفيلم حكى للشاعر المبدع حسين السيد عن والدته وطلب منه كتابة أغنية تبدأ بجملة (بلاش تبوسني في عنيا دي البوسة في العين تفرق)، فأكمل حسين (يمكن في يوم ترجع ليا والقلب حلمه يتحقق/ خلي الوداع من غير قُبَلْ علشان يكون عندي أمل/ وبلاش تبوسني في عينيا/ ..).
ولم تكن هذه الأغنية الوحيدة التي كان ورائها حكاية مرتبطة بالأم وألفها حسين السيد، فأغنيته الشهيرة، ست الحبايب، التيمة الأساسية لعيد الأم لأكثر من خمس وستين عامًا، كان قد كتبها وأهداها لأمه وهو يزورها ليهنئها بعيد الأم، ثم اتصل بالموسيقار عبد الوهاب في ذات الليلة، فلحنها وشدت بها المطربة فايزة أحمد صباح اليوم التالي.
ولأن معرفة الحكاية تجعل للأغنية طعمًا آخر فضلاً عن كونها توثيقًا يحمل دلالات تاريخية وعاطفية، يمتعنا الشاعر الكبير جمال بخيت في برنامجه التليفزيوني الأسبوعي (عوام في بحر الكلام) على قناة "ON" بإبحاره في محيطات شعراء الأغنية المصرية، حيث استطاع بسلاسة يحسد عليها، وبساطة تنم عن حرفية، ربط التاريخ بمسار الغناء المصري الأصيل فبدء حلقاته بالشاعر محمد يونس القاضي، مؤلف النشيد الوطني (بلادي بلادي)، تلحين سيد درويش، والتي ما زالت أغانيه تعيش بيننا حتى الآن؛ "أهو ده اللي صار" و"زوروني كل سنة مرة" و"أنا هويته وانتهيت".
وهكذا توالت الحلقات في مسبحة متنوعة أعاد فيها الشاعر الكبير تعريفنا بالريس حفني أحمد حسن صاحب موال "شفيقة ومتولي"، والشاعر البورسعيدي محمد عبد القادر والسمسمية؛ صوت المقاومة على طول خط القناة في فترات الحرب، وزغاريد الفرح في ليالي الانتصار. والراحل صلاح فايز ووحشتني غناء سعاد محمد والحب الحقيقي غناء شادية اللتان غناهما الكثير من المطربين والمطربات، وتصويب ما خالط الكثير من الأغاني من ادعاءات غير صحيحة؛ مثل أغنية "ع الحلوة والمرة" للشاعر سيد مرسى، التي ادعى فيها البعض أنه أرسلها لمحبوبته وقت كان يعمل مكوجي.
وفي الوقت الذي كنت أتحدث فيه مع الصديقة العزيزة السيدة الفاضلة قرينته عن إعجابي بالبرنامج، على هامش دعوة لتناول فنجان قهوة، أخبرتني آسفة أن البرنامج سيتوقف لأسباب لا ترجع للأستاذ جمال، شاركتها أسفها خاصة أنني كنت أتمنى أن تمتد الحلقات لتشمل الغناء في الوطن العربي من الأخوين رحباني وفيروز في لبنان، إلى فناني الخليج العربي، وروائع نزار قباني.
وكلي أمل أن يجد البرنامج نافذة جديدة في أحد القنوات العربية ليواصل جمال إبحاره في مياه النغم والتاريخ.