يقول الفيلسوف السياسي نيكولو مكيافيلي (توفي 1527م): من الحكمة محاكاة الجنون. هناك نظرية في السياسة الدولية تسمى نظرية الرجل المجنون، والمقصود بها أن صانع السياسة الخارجية يتسم بنوع من الجنون، بحيث لا يمكن توقع أفعاله أو ردة أفعاله.
الفائدة التي يجنيها صانع القرار، الذي يتدثر بالجنون، أن يجعل خصومه لا يستطيعون التنبؤ بأفعاله، لأن قياس ومعرفة السلوك للساسة مبني على خصائص عقلانية.
المتوقع من صانع القرار- وهو من النخبة في أي بلد - أن يتصرف بحسب ما تقتضيه مصالح بلاده، ولأن هذا هو هدف صانع القرار، وتستطيع أن تقرأ مسبقاً خطة سير صناعة قرار الخصم، وتتخذ الإجراءات لمواجهة هذا الخصم.
وقد كثر الحديث في السابق عن ريتشارد نيكسون وتمظهره كرجل مجنون لإخافة أعدائه، ولا سيما القوى الشيوعية. ويذكر كبير موظفي البيت الأبيض، هاري روبنز هالدمان، أن نيكسون أسر له: «أسميها نظرية الرجل المجنون، يا بوب.
أريد أن يعتقد الفيتناميون الشماليون أنني وصلت إلى مرحلة قد أفعل فيها أي شيء لإيقاف الحرب. أنتم تعرفون أن نيكسون مهووس بالشيوعية. لا يمكننا كبح جماحه عندما يغضب - ويده على الزر النووي، وسيكون هو تشي منه (الزعيم الفيتنامي) بنفسه في باريس خلال يومين يتوسل من أجل السلام».
وقد استخدم هنري كيسنجر، وزير الخارجية حينها، هذه الحيلة للضغط على الفيتناميين في المفاوضات في باريس، فعند اشتداد المفاوضات والتي تصل إلى طريق مسدود، يطلب إيقاف المباحثات، ثم ينفرد برئيس الوفد الفيتنامي، ويتقمص دور الناصح الأمين ويقول له:
«إن الرئيس مصاب بالجنون. واني أحاول دائماً تهديته حتى لا يقدم على عمل جنوني، حيث يريد أن يمحو فيتنام من الخريطة، وإذا ما سمع أنكم تماطلون في المفاوضات فإنني لن أستطيع السيطرة على جموحه، وقد يفعل أي شيء».
وحسب ما جاء في الأرشيف الوطني الأمريكي، فإن نيكسون وكيسنجر اتبعا الأقوال بالأفعال، ففي خضم المفاوضات مع الفيتناميين، ولتعزيز موقف واشنطن التفاوضي، أوعز نيكسون برفع حالة الاستعداد النووي في أنحاء المعمورة.
وكان القصد إرسال رسالة لا تخطئها العين لهانوي وداعميها في موسكو أن طفح الكيل؛ وأن على موسكو الضغط على الفيتناميين لإبداء المرونة في المفاوضات.
وقد حركت الولايات المتحدة أساطيلها، وقامت بتحركات عسكرية في مناطق متعددة من العالم، وقد شملت العمليات العسكرية قاذفات استراتيجية وحاملات طائرات وغواصات مزودة بصواريخ بالستية، وقد أردف كيسنجر هذه التحركات بإنذار إلى الفيتناميين عن طريق وسطاء أن نيكسون سيضطر آسفاً إلى استخدام قوة مفرطة إذا لم تنتهِ الحرب في 1 نوفمبر 1969.
ولكن نيكسون لم يستطع تنفيذ تهديده بسبب اشتداد التظاهرات ضد الحرب، وأن التصعيد سيؤجج من الشارع والمعارضة للحرب. والنظرية التي تبناها نيكسون لم تؤتِ أكلها، وظل الفيتناميون يقاتلون لسنوات إلى أن سقطت سايغون عاصمة جنوب فيتنام في أيدي الثوار.
والسؤال، لماذا لم تنطلِ نظرية الرجل المجنون على الفيتناميين. الأول أنهم لم يصدقوا حماقة الرئيس في ضوء توازن الرعب بين السوفييت والأمريكيين. استخدام قنابل ذرية مع تصاعد المعارضة الشعبية سيؤدي حتماً بالإطاحة بنيكسون وإدارته.
تجاوز المحظور في استخدام القوة النووية ضد دولة غير نووية سيغير اللعبة الدولية، وقد تستخدم دول نووية الأسلحة المحظورة ضد أعدائهم مثل أفغانستان من قبل الاتحاد السوفييتي بعد عقد من الزمن.
سيقلد بعض القادة هذه النظرية كحيلة للوصول لمبتغاهم، والمهم عدم الوقوع في شراكهم، وقد قيل «إِياكِ أعنِي واسمعِي يا جارة».