أرسل صاحبنا المقال إليها مشفوعًا برسالة يطلب فيها مراجعة المسودة قبل أن يدفع به إلى الجريدة، فتلقتها في حبور، وردتها مع بعض فضل تعليق، ثم أردفت (وهل كان دوري سوى أن اقترحت فكرة!).
وهنا شرد صاحبنا بخياله، ثم هز رأسه واسترجع ذلك الحديث العابر الذي جمعهما على غير تدبير، تفرقت موضوعاته، إلى أن سَأَلَته؛ هل انتهيت من مقالك الأسبوعي؟، فأجابها أن ليس بعد!، ثم أردف بعد ما لمعت في ذهنه فكرة، هلا اقترحت موضوعًا؟، فأجابت بعفوية؛ حرائق هوليوود، كم هي كارثية، ولا أظنها ببعيدة عن آثار التغير المناخي، ثم انحرف بهما الحديث جانبًا إلى أن انصرفا على أمل اللقاء.
يقضي الكاتب من الوقت ما شاء له الله أن يقضي باحثًا عن فكرة تستحق أن يشاركها قراءه، فإذا ما وجدها راح يضع محاورها، مجتهدًا أن تأتي خفيفة فتلتقطها العين التقاطًا. محدودة، لا تتجاوز المساحة المخصصة؛ وما هي بالكبيرة فيستغرق في الإسهاب.
حتى إذا ما جاء موعد صاحبنا مع قلمه تجسدت الفكرة أمامه على الطاولة فراح يحبك صياغتها، محاكيًا–قدر طاقته- صنايعي الأرابيسك في التقاطه ما يُهمَلُ من قطع خشب ورش النجارة، فإذا مد إليها يده أخرج منها تلك المنمنمات اللطيفة في تعاشيقها، الآسرة في تآلف أشكالها، أو لعله كان ذلك النحات الذي مر على كتلة حجر صماء فاستوقفته؛ فدار حولها دورتين أو ثلاث، ثم أمعن النظر فيها على خلاف من هم حوله، حتى ليظنه من لا يعرفه أن به مسًا أو ما شابه، فإذا مد يده إليها استخرج منها ذلك التمثال البديع الذي رآه بعين فنه محبوسًا داخلها، فشرع يفك أسره بضربات إزميله.
لقد كانت فكرة المقال –سيدتي- بمثابة تلك القطع الخشبية أو تلك الكتلة من الحجر، حين أشرت إلى ما فيهما من أسرار، فراح صاحبنا يعمل فيها جهد طاقته، ليخرج المقال على هيئته التي يعرفها القراء، فيتقبله نفرٌ بقبولٍ حسن، ويُعرض عنه نفرٌ آخر.
ثم، ألا توافقينني سيدتي في أن كل ما يدور حولنا –صغيرًا كان أو كبيرًا- قائم على أفكار، ربما استولدت بعد عصف ذهني أو ذُكرت عَرضًا فتلقفها صيادٌ ماهرٌ أريب.
فالباحث في معمله تشغله فكرة، والقائد وسط جنوده تقوده فكرة، والسياسي حول مائدة المفاوضات يسعى لتحقيق فكرة، والطالب في مدرسته يجتهد لفكرة، حتى المحبين سيدتي تشاغلهم فكرة.
في كتابه (الأفكار التي شكلت العالم.. تاريخ موجز لفكر الإنسان)، يذكر المؤلف فيليب أرميستو (... أن السبب الحقيقي في تشكيل العالم، يرجع إلى قدرة الإنسان على توليد الأفكار، وأن هذه القدرة هي ما يميز الإنسان عن بقية الكائنات).
فالطائر والحيوان الذي يتقن صناعة مأوى له ولأسرته، ويجيد الصيد، لا يمتلك القدرة على تطوير فِكرِة وإكسابها قيمة مضافة جيلاً بعد جيل، بل تتعاقب الأجيال على ميراث ذات الأفكار، بفارق بسيط لكنه مؤثر في الحفاظ على نوعه، ألا وهو سعيه واجتهاده في صيد فرائسه من جهة وتجنب مُفترِسَاتِه من جهة أخرى.
ولم يحدث أن اكتشفت نحلة أن البشر يأكلون عسلها فأقامت ضدهم دعوى قضائية إلا في فيلم الكرتون الشهير (النحلة The Bee) انتاج شركة Dream Works.
أقام الإنسان حضارته على ما تراكم من تجارب صنعتها أفكار، تقدم بالصواب منها خطوة بعد خطوة، وعلمته اخطاءه تجنب العثرات.
وهكذا يا سيدتي، وكما ترين أننا دائمًا نبحث عن الأفكار سواء من خارج أو داخل الصندوق، وكذلك المقال ما هو سوى فكرة.