أخبرني صاحبنا من بين ضحكاته المتقطعة، أنه كان مع نفر من صحبه يجلسون على شاطئ مرسى علم على ساحل البحر الأحمر، بعد انتهاء يوم عمل شاق قطعوا فيه مسافات طويلة داخل الصحراء عبر مسارات وعرة، تصبح فيها السيارة أقرب إلى صندوق حديدي ترجها يد قوية رجًا شديدًا، فإذا كل ما فيها يتطوح يمينًا ويسارًا، حتى إذا ما انتهوا من مقصدهم، وما مقصدهم بالأمر الهين، عادوا أدراجهم إلى محل إقامتهم بذلك الفندق الذي يتبارى المقيمون فيه على ارتداء أحدث موديلات ملابس البحر، فإذا هو وصحبه بأفرولاتهم الزرقاء أشبه بمخلوقات فضائية تسير بين أهل البحر.
فما أن عادوا، على غير العادة، في ذلك اليوم قبل غروب الشمس، حتى سارعوا يعملون عمل أهل الفندق من السائحين، فبدلوا زيهم وتقابلوا على الشاطيء، يلهون بالماء ساعة وببعض المرح الخفيف ساعة أخرى، وبينما هم على حالهم هذا حتى تقدم منهم رجلٌ كبيرُ السن، لا تشك أنه جاوز العقد السابع من عمره، اقترب منهم وعلى وجهه مسحة من ضيق ثم وقف غير بعيد وبلهجة أقرب إلى آمر طلب منهم خفض أصواتهم قائلاً، (فقد جُعل الشاطئ للاستجمام، ولا استجمام مع صخب)، ثم تركهم ومضى مطمئنًا إلى نجاح مسعاه، بعد ما أوحت قسماتهم مع تمتمات شفاههم بالاعتذار.
قَصَ عليّ صاحبنا هذا الموقف من باب الطرافة ومن باب اختلاف المقصد بين ثقافات ترى في الشاطئ مسرحًا لمرحٍ ولهوٍ لا تثريب فيه، وأخرى ترى فيه محلاً للاستجمام يحصل الجالس فيه على كامل حقه من الخصوصية؛ لا يؤثر فيها وجود من حوله، فصنيعهم كصنيعه؛ استغراق في بحور التفكير والتجديف بقارب الصمت.
لكن ما أوقفني في حديث صاحبنا سعي هذا النفر من السائحين الأجانب إلى مقصدهم الساحلي النائي عن العمران، ومن ثم التلوث والضوضاء، طلبًا للاستجمام.
ذكرني ذلك الموقف بيوم قصدت فيه محطة قطار العاصمة الدنماركية كوبنهاجن للسفر إلى مدينة أخرى، عندما سألتني عاملة التذاكر إن كنت أُدخن أم لا، فلما أجبتها بالنفي، سألت هل ستتحدث في الهاتف المحمول خلال سفرك، وهنا ارتفع حاجباي تعجبًا، وكدت اندفع وأنهرها وربما تماديت فوبختها وأُسمعها محاضرة عن الحرية الشخصية التي يتباهى الغرب بها ويحظرها على غيره، وكيف أنها بسؤالها هذا تعتدي على حريتي، وأنهم قومٌ يقولون ما لا يفعلون، لكنني تراجعت يا سيدي في اللحظة الأخيرة بعد ما امتد خيط حُلمي سنتيمتر واحد جعلني استفسر عن سبب سؤالها، فأخبرتني أن عربات القطار مقسمة إلى ثلاث؛ مدخنون، وغير مدخنين، وصامتون، يُسمح فيها لمستقلي القسمين الأول والثاني الحديث في الهاتف أو مع رفقائهم في السفر، أما مستقلو القسم الثالث فركابه من أهل "لا" النافية للجنس، كما عرفها أبو الأسود الدؤلي، (لا تدخين، لا حديث، لا هواتف)، يجلسون كأنما على رؤوسهم الطير، في عربة زودت نوافذها بزجاج مزدوج يحجز هدير القطار في الخارج.
على النقيض من ذلك، تحولت شوارعنا وأنديتنا وشواطئنا إلى محال للصخب والضجيج، تحترق فيها الأعصاب وتتوتر، وتنعدم فيها الخصوصية، تغلق عليك باب من خلف باب، فإذا أبواق السيارات تخترق الجدران، وصراخ الباعة وجدال المارة ينفذ من الحوائط، وتتسرب عوادم السيارات من تحت عقب الباب ومن بين خصاص النوافذ.
كم نفتقد تلك الرياضة الذهنية من الاستجمام، وكذلك سياحة التأمل في النفس والكون والحياة والأسرة والأصدقاء، وكل ما حولنا، نُعيد فيها تقييم مناهج حياتنا وأهدافنا.