كما يعرف النخل أهله، يعرف البحرينيون رجال بلدهم المحترمين. المشاركة الواسعة في مراسم دفن الفقيد جاسم مراد، عضو المجلسين التأسيسي والوطني في 1973، أظهرت مستوى الإجماع الوطني حول هذه الشخصية المحبّوبة والمحترمة عند البحرينيين بجميع أطيافهم وتلاوينهم. لقد ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بالعبارات التأبينية المثمّنة لهذه الشخصية منذ الإعلان عن خبر وفاته يوم الأربعاء الماضي 9 يناير 2019.
ابن المحرّق جاسم مراد (1930- 2019)، العروبي والمثقف الوطني المستنير كما وصفه المناضل إبراهيم شريف، مقرّب من الشيعة والسنّة على السواء، العلمانيين والدينيين، البسطاء والمثقفين، الأغنياء وأبناء الطبقة المتواضعة. لا يخطئ التواضع حديثه البسيط العفوي، ولا تندى الابتسامة عن وجهه وهو يجالس الناس ويسأل عمن غاب عنهم: "شوفوه ليش مختفي من فترة يمكن محتاج شي ترى إحنا حاضرين". لم يودّع البحرينيون الرجل الوطني فقط، بل الكريم الذي لا يردّ سائلاً، والمبادر بالسؤال عمّن له حاجة يقضيها.
يعامل الجميع بودّ وحبّ وتواضع وطريقة تنم عن قلب شفّاف: الأهل والمعارف والأصدقاء والغرباء، كذلك كما العمال لديه والخدم، ولا يختلف الوضع مع الأجانب الذين يلتقيهم أو يصادفهم عندما يسافر سائحاً.
"لا يشبه جاسم مراد الأغنياء ولا الأثرياء ولا التجار ولا رجال الأعمال، يشبه نفسه فقط، إنسان كافّ عافّ مستغنٍ، ورغم كونه من الأثرياء ورجال الأعمال، فإن هذه المظاهر لا تنعكس على شخصيته المتواضعة". هكذا يصفه أصدقاؤه المقربون.
متابعٌ دقيق للوضع السياسي المأزوم في البلاد، ومهتم حريص على تحريك ما يمكن أن يساهم في حلحلة الوضع، إنّه صاحب أحد البيوت التي شهدت اجتماعات عدّة لقادة سياسيين، وانطلقت منها مبادرات عدّة من أجل التهدئة، من أجل كتابة بيان ما، أجل التوسط بين الحكومة والمعارضة..
ورغم بساطة لغته في الكتابة لكنّه يصرّ على توصيل رأيه والتعبير عنه، يقول للصحافيين: "سأكتب وصلّحوا لي".
انخرط جاسم مراد في هيئة الاتحاد الوطني التي تشكلت في الخمسينات وكان قريباً من المناضل عبد الرحمن الباكر وقد تمّ نفيه إلى الكويت لسنوات. وفي المجلسين التأسيسي والوطني عرف جاسم مراد بمواقفه الواضحة والجريئة، فهو المنحاز إلى التحديث وحقوق المرأة وفصل الدين عن الدولة، وتحقيق التنمية الرشيدة والعدالة الاجتماعية وحرية الرأي والضمير والمعتقد كما يؤكد الدكتور حسن مدن.
أيّد الحراك المطلبي في 2011 وكان مع شعار الإصلاح والتغيير التدريجي ومن الدعاة إلى التعقّل في الطرح، ويرى أن المطالب يجب أن تكون أكثر واقعية، وطالما ردّد أن البحرينيين نقطة في محيط الخليج. كان يخشى على الحراك من اندساس المخرّبين والمخبرين، ويعتقد أن الثورة تحولّت إلى فخّ تمّ فيه اصطياد الناس.
كان حزيناً وموجوعاً بسبب تداعيات 2011، أُديرت في بيته عدد من الحوارات الوطنية آنذاك، وخلال تلك الجلسات يحدث أن تصلّ أخباراً بسقوط شهيد بسبب المواجهات، تنكسر ابتسامته ويحلّ مكانها الوجع، لا يحتمل قلبه هذه الأخبار، يقول دائماً: هذا (الواتس أب) يوترني لا أستطيع أن أتلقى الأخبار.
يمنعه عمره الذي تجاوز الثمانين عاماً والمرض من البقاء أحياناً في هذه الجلسات، يعتذر عن الاستمرار ويصعد إلى غرفته، لكنّه يوصي الحاضرين بإكمال الجلسة، ويوصي ابنه أو خادمه بمداراة الجالسين حتى يكملوا نقاشاتهم وموضوعاتهم.
يختلف مراد مع بعض التيارات السياسية المعارضة في تقدير سقف المطالب والحراك السياسي العام، ولديه ملاحظات على مسار الحراك السياسي في البحرين، وهو لا يتوانى عن لفت النظر إلى ما يراها أخطاء تجري عند باب هذه المطالب. لكنّه كان قريباً من الجميع الذين يعرفون مدى صدقه وحبّه ووطنيته وإخلاصه.
خلال لقاء صحافي أجري معه بعد توجيه دعوة له لحضور حوار التوافق الوطني، طالب مراد "بتشكيل لجنة من حكماء البلاد تتولى إعادة صياغة الدستور تحت إشراف خبراء دوليين"على أن "يتم التوافق فيه على مطالب الحكومة والشعب"، وطالب بحرمان المجنّسين حديثا من التصويت في الانتخابات "ما لم يمر 10 سنوات على تجنيسهم"، وتضمّنت رسالته التي سلمها إلى رئيس الحوار خليفة الظهراني مطالبته بإطلاق كافة معتقلي الرأي قبل بدء الحوار، وبأنه لا يجوز قطع راتب أي مواطن حتى وهو مسجون لأي سبب كان، ومنع الجيش ورجال الداخلية أن يصوتوا في الانتخابات. ورأى أن "هؤلاء يؤمرون ولذا هم غير أحرار فيما يختارون".
"هو شخص لا يُملى عليه" هكذا يصفه المقرّبون، يقول أحدهم "لقد كان اسمه مطروحاً في لجنة الميثاق ثم في لجنة الحوار الوطني، وفي كلّ مرة يستبعد بعد طرحه لأنّهم يخشون أن لا يتمكّنوا من تضبيطه وفق ما يريدون".
جاسم مراد ابن النخلة، والنخلة المعطاءة لا تقبل أن يُملي عليها أحد، لا تقبل غير إملاء الأرض التي تقف فوقها بشموخ. لقد عاش مراد نخلة ومات واقفاً.