عصمت الموسوي
...........................
- صباح الخير أبو صلاح، عندي لك اليوم قصة جديدة.
- قولي؟
- عائلة بحرينية والعائل سجين على ذمة قضية جنائية في مصر.
- وماذا يريدون؟
- تذاكر سفر لزيارته.
- اذهبي لزيارتهم وتحققي من الحكاية وسأرسل لك التذاكر غدا صباحا.
بهذه السرعة، وبهذه البساطة، وعبر توليفة ثنائية تقوم على الثقة والصدق والشفافية بيني أنا الصحفية وبين التاجر الراحل جاسم مراد. قمنا بمساعدة العديد من العائلات والأفراد عينيا وماليا، هو الممول وأنا الوسيط ، لا يسألني جاسم عن التفاصيل وأين ومتى وكيف ؟ " توكلي على الله "، تلك جملته المعتادة. بعد سنوات من ترك المهنة سوف أنسى كل شي، متاعب المهنة ومزالقها ونكدها، إلا تلك الفرحة والسعادة التي كنت أشاهدها على وجوه هؤلاء الناس البسطاء، وكثير منهم لم يعرفوا جاسم ولم يسمعوا به، ولم يرد جاسم الالتقاء بهم تفاديا للحرج، إلا سجين القاهرة ولكن تلك حكاية سآتي على ذكرها لاحقا.
وكنت قد أدرت صفحة القراء مرتين، الأولى في الثمانينات مع جريدة اخبار الخليج، والثانية في التسعينات مع جريدة الأيام. خصصت صفحة في مفكرتي اسميتها " أثرياء البحرين " نتواصل معهم ونحوُل لهم الحالات التي تستدعي المساعدة والطوارئ العاجلة معيشيا، طلاب جامعات عاجزون عن دفع الرسوم، مرضى بحاجة الى علاج، نكبات سكنية اثر حريق أو عوز ما، أو عطالة عن العمل، وغيرها الكثير.
يقرأ جاسم مراد الصحف يوميا، يتوقف أمام زاوية بريد القراء، يهاتفني اذا وجد رسالة تستنجد العون والمساعدة المالية، والواقع انني لمست تجاوبا إيجابيا من أغلب الأثرياء في البحرين، بيد أن كثير منهم يحيلون الموضوع إلى اقسام خاصة للمساعدة والمشاريع الخيرية، وكلها تتضمن ما يشبه لجان للتحقيق، وتحتاج وقتا للبت فيها، ذلك أنهم يتلقون رسائل طلب مساعدة من جهات عديدة، كان جاسم مراد هو الأسرع بالنسبة لي خصوصا في الحالات الطارئة، والتي يكون الوقت عاملا مهما في حسمها، جاسم هو الأقرب والأسرع بالنسبة لي، بيني وبينه خط ساخن، أصل إليه في كل وقت، واذا كان مسافرا يحيلني على إبنه زياد، تصلني مظاريف المساعدة المالية عبر سائقه " كومار" وما هي إلا يوم أو يومين حتى نكون قد انجزنا المهمة. قبل عامين هاتفني جاسم صباحا،قال لي: هل قرأت زاوية القراء بصحيفة الوسط ؟ هناك طالبة طب متفوقة وعلى وشك التخرج والرسوم الجامعية الباهظة تقف حائلا دون ذلك، كان مبلغا كبيرا يصل إلى 30 ألف دينار، التقيت بالعائلة واخبرتهم، وصلت الرسوم في اليوم الثاني، وتخرجت البنت، وظلت تتواصل معي إلى يومنا هذا، وقد شاهدتها في عزاء جاسم الأسبوع الماضي.
هذه بعض من حكايات جاسم التي اتذكرها، كثير منها تبدد للأسف، يؤمن جاسم أن البذل والعطاء يحرك الحياة ويغير حياة الآخرين ويترك أثرا محمودا، كان يقول: اذا انكسر خاطرك على شخص ما فلا تكتفي بالتعاطف أو الشفقة، هذي الكلمات مثل: مسكين، والله يعينه، وحرام، لا تفيد، ما يفيد هو تقديم شيء ما لتغيير حاله ونقله إلى حال أفضل. جاسم كان يقول : هذه الأموال التي ندفعها للمساعدة تعد قليلة جدا قياسا بثروتنا، ولا تؤثر على التاجر ولا تقلل مداخيله، وجدير بنا كأثرياء أن نكون عونا لابناء بلدنا باستمرار.
نعود إلى سجين القاهرة، فقد وصلتني رسالة خارجية من مصرمطلع عام 2000، قرأتها، فإذا نصفها بالعامية البحرينية والنصف الآخر بالعامية المصرية، يقول فيها أنه سجن على أثر قضية جنائية وقد أمضى نصف محكوميته، وأنه قرأ صحيفة الأيام بالصدفة لان النسخ القديمة من الصحف البحرينية وصلت إليه بطريقة ما عبر وساطة السفارة البحرينية في القاهرة، وفي الرسالة طلب مني صاحبها امرين : الأول: الطلب من وزارة الداخلية السماح له بتمضية الفترة المتبقية من سجنه "مؤبد" في البحرين، والثاني: مساعدته ماليا لشراء تذاكر سفر لأهله لزيارته في سجن القاهرة.
جاسم مراد حقق امنيته الثانية، وأما مطلبه الأول فقد تحقق على يد جلالة الملك حمد بن عيسى أبو سلمان حفظه الله عشية انطلاق المشروع الإصلاحي عام 2002 اذ عاد إلى الوطن ضمن جموع العائدين السياسيين .