يكتبها ــ فاروق جويدة
...............................
الأَرضُ ليستْ ملكَ جيل يستبيحُ الصبحَ فِى أَرجائها.
ويبيعُ فيها ما يبيعُ وليسَ يسأَله أَحدْ
ستجئَ أجيالٌ وأَجيالٌ تُحاسبنا.
وتصرخُ فِى ظلامِ قبورنا.
لَم تتركوا شيئا لنا
> هذه بعض الكلمات التى قالها الراحل القدير عبدالله غيث فى مسرحيتى «الوزير العاشق» منذ أربعين عاما.. واليوم اقول أن التاريخ كل التاريخ من حق الشعوب وهو حق أبدى لأنه سلاسل من التراكمات التى تصنع مع الزمن والطبيعة جبالا وتلالا تزين وجه الأرض، وتحكى تاريخ الراحلين لمن يجىء بعدهم.. وللإنصاف فإننا كشعب لم نقدر أبدا قيمة تاريخنا ولم نضع رموزه فى مكانهم الصحيح.. بل إننا فى أحيان كثيرة اعتدينا على قدسية هذا التاريخ وأنكرنا أدوارا وهمشنا رموزا وزورنا الكثير من الحقائق، وجلسنا على أطلال الماضى نستعيد ذكريات مريضة وأحكاما جائرة وخصومات أبعد ما تكون عن الحق والعدل والأمانة ..
> لا أدرى ماذا سيقال اليوم عن ثورة 25 يناير وما هى آخر الاتهامات التى ستلحق بها، وهل كانت ثورة أم انتفاضة أم كانت مؤامرة؟.. هذا ما توصلنا إليه طوال السنوات الماضية ومنذ خرج شباب مصر يوم 25 يناير يطالبون بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية وهى أحلام لا تسقط بالتقادم وتبقى دائما فى ضمير الشعوب..
> بداية لا أجد تعارضا على الإطلاق بين أن نحتفل بعيد الشرطة وذكرى ثورة 25 يناير، إن الشرطة فى ضمير كل مصرى كانت من أهم واغلى مؤسسات الدولة المصرية دورا وتأثيرا وحماية .. ولا أحد فى مصر أنكر دور الأمن المصرى منذ أحداث الإسماعيلية وحتى آخر شهيد من رجالها سقط وهو يؤدى واجبه فى حماية هذا الوطن.. ولا اعتقد أن شباب مصر خرج يوم 25 يناير لكى يشوه عيد الشرطة وذكريات عزيزة عن نضالها من اجل هذا الشعب، ولهذا فإن محاولة إيجاد تعارض بين أحلام الشباب الثائر وتاريخ الشرطة المجيد عمل لا يتسم بالأمانة والمصداقية والحرص على ذاكرة هذا الشعب..
> ليس من الحكمة أن نفصل فصلا تعسفيا بين ثورة يناير وما حدث فى 30 يونيو لأن السياق واحد من حيث البداية والهدف، وإذا كانت ثورة يناير قد وجدت من يسطو عليها فإن 30 يونيو كان تصحيحا لمسار الثورتين.. هل ينكر احد أن مصر وقعت فريسة جبهتين هما الحزب الوطنى وجماعة الإخوان المسلمين وأن الحكم كان شراكة بين الجبهتين، فى يوم من الأيام كتبت مقالا فى الأهرام بتاريخ 12 يوليو 2013عنوانه «مصر بلا وطنى ولا إخوان».. والحقيقية اننى لم افرق بينهما فالشيء المؤكد أن الإخوان كانوا احد أجنحة السلطة مع الحزب الوطنى، بل انهم كانوا يمثلون المعارضة الوحيدة حتى وان كانت مستأنسة.. كان من الصعب على شباب مصر الواعد البرئ أن يتخلص من الجبهتين ولكن الصحوة الاولى خلصت مصر من الحزب الوطنى وحكومته ورأس نظامه فى ثورة يناير، ثم تخلص الشعب بعد عام من الفشل والعذاب من جماعة الإخوان المسلمين فى ثورة يونيو وهذا يعنى أن المصريين بدعم من جيشهم قد حققوا انجازا تاريخيا حين اسقطوا جبهتين فى الحكم وعزلا رئيسين لكى تدخل مصر عصرا جديدا برئاسة عبد الفتاح السيسى .. هذا يعنى أن ثورة يناير لم تفشل لأن وعى المصريين زاد ولأن الشارع المصرى بعد عام من حكم الإخوان، وهم جناح السلطة فى مصر قد خرجوا بعد تجربة فاشلة فى الحكم وإدارة شئون مصر وهنا كانت البداية الجديدة، ولولا الثورتين ما كان عزل الوطنى وخروج الإخوان وهذه المرحلة التى نعيشها الآن فى ظل واقع جديد..
> إن معركة مصر ضد الإرهاب لم تبدأ فى 25 يناير ولم تكن بسبب شباب الثورة الواعد، لأن بداية عمليات الإرهاب بدأت فى سيناء قبل هذا التاريخ بفترة ليست بالقصيرة سواء فى عمليات شرم الشيخ أو غيرها، كما إننا لا نستطيع أن نتجاهل أن إهمال سيناء شعبا وأرضا وأحلاما كان من أسباب الإرهاب.. لقد اتسعت العمليات الإرهابية كرد فعل لخروج الإخوان ومع ذلك كان ظهور داعش فى العراق وسوريا وعودة القاعدة إلى ليبيا وسقوط نظام القذافى وماحدث فى الحرب الأهلية فى سوريا، هذه المواجهات من الصعب أن نربط بينها وبين ثورة يناير فى مصر، حتى أيامها الأولى كانت حركة الشباب المصرى حركة واعية تتسم بالوطنية والحرص على مستقبل الوطن.. إن التحول الخطير فى 25 يناير حين نزل الإخوان المسلمون إلى الشارع بعد فشل مفاوضاتهم مع الدولة لإخماد كل شىء وتحقيق المزيد من المكاسب وهناك من يرى أن السلطة حصلت على وعد إخوانى بإجهاض ثورة الشباب فى أيامها الاولى مقابل بعض المكاسب الجديدة اكبر من كل ما حصلوا عليه فى زمن الشراكة مع السلطة والحزب الوطنى.. والشىء المؤكد ان الإخوان كان لديهم الاستعداد لإجهاض ثورة الشباب وهى مازالت فى نطاق ميدان التحرير ولو تمت هذه الصفقة بين السلطة والإخوان لما حدث شىء بعد ذلك..
> إذا كانت المؤسسات الأمنية فى الدولة قد كشفت اى مظاهر سيئة فى مسار ثورة يناير فلم يكن ذلك فى أيامها الأولى، فقد كانت حركة شبابية مصرية ووطنية لم تدنسها المؤامرات، وان شهداء الأيام الأولى للثورة لم يكونوا متآمرين أو خونة كما تردد بعض أبواق الإعلام.. نحن أمام 846 شهيد اعترفت بهم مؤسسات الدولة الرسمية فى وزارتى العدل والداخلية وهؤلاء ضحوا بأرواحهم من اجل الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية وهؤلاء يجب أن نحتفى بهم، فلم يكن بينهم خائن أو مقامر أو عميل.. وإذا كان بعض أذناب النظام السابق يشوهون صورة هؤلاء الشباب فإن دماءهم أمانة فى رقابنا أمام الله وأمام التاريخ .. لم تكن ثورة يناير فى بشائرها الأولى غير صحوة شعب أراد التغيير للأفضل وحلم بأشياء من حق كل الشعوب فى الحرية والأمن والعدالة والكرامة الإنسانية..
> لقد دافع جيش مصر عن ثورة يناير حين نزلت قواته إلى الشارع وتلاحمت مع شباب الثورة وكان حصنا أمينا من حصون الوطن، ولولا هذا الجيش لكانت هناك أشياء أخرى وبعد عام من فشل الإخوان وكشف مخططاتهم كان خروج الشعب بالملايين فى حماية الجيش أيضا.. ولو كان الجيش يعلم أن ثورة يناير مؤامرة ما شارك فى حمايتها وما دفع بقواته لحماية أركان الدولة فى 30 يونيو إن الجيوش لا تحمى المتآمرين ولكنها تحفظ عهدها مع الأوطان بكل الصدق والشفافية والأمانة..
> اعترف بأننى وقفت مع شباب مصر فى 25 يناير وأن قصائدى كانت مرسومة على جدران ميدان التحرير وفى أكثر من مكان وعلى عشرات المواقع فى النت.. وكان يقينى إننا أمام شباب يحب وطنه ويريد له أعلى الأماكن وأن مطالبهم حق مشروع أمام سلطة لا تسمع ولا تقدر، وأن الحرية ابسط حقوق البشر، والعدالة أهم مقومات الحياة، والكرامة الإنسانية أن يوفر المجتمع لابنائه الأمن والرخاء والاستقرار.. لم أتصور والشباب يهبط فى ميدان التحرير أن يكون بينهم خائن أو عميل أو متأمر فقد خرجوا بدوافع وطنية تحلم بمستقبل أفضل لوطن عزيز.. إذا كانت هناك أقاويل قد ترددت ولم تتأكد بإدانات حقيقية وأحكام من القضاء إن هناك من كان وراء خروج الشباب فهذه قصص تحتاج إلى أدلة لأنه لا يعقل أبدا أن تصل الاتهامات إلى درجة العمالة والخيانة والأموال ثم لا يحسم القضاء مثل هذه الاتهامات.. كما انه من الصعب جدا أن يتهم كل من شارك فى هذه الثورة أو أيدها ووقف معها انه ضد الوطن.. إن صكوك الوطنية لا يوزعها الجالسون وراء الشاشات لأن الدماء اغلى من كل هذه الوجوه التى تتاجر بالوطنية.. إن ثورة يناير مثل كل الأحداث الكبرى لها مالها وعليها ما عليها وهى جزء عزيز من تاريخ مصر ممثلا فى خيرة شبابها وينبغى ألا يجلس عواجيز الشاشات يعطون الأوسمة هنا ويمنعونها من هناك.. الوطنية ليست مزادا إعلاميا رخيصاً..
> كل ما ارجوه أن نذكر لأبنائنا حقيقة المواقف، وألا نشوه مواقف اختلفنا معها أو جاءت ضد مصالحنا أو انها غيرت مجرى الأحداث والأشخاص والأشياء لأن التاريخ ليس ملكا لأشخاص حتى لو كانوا شركاء فى صنعه.. إن ثورة يناير حق للشعب وثورة يونيو كانت لكل المصريين والذى سيبقى من ذلك كله هى مصر.. لا شىء غيرها..
ويبقى الشعر
هَانَتْ عَلَى الأَهْلِ ِ الكِرَامِ دمَانَا
وتفرقتْ بين الرفاق ِ خـُطــانـــــــا
عُدنا إلى الميدان ِ نسألُ حُلمَنــــَا
بكتْ الربوع ُوحزنـُهـا أبكــانـــــــا
أينَ القلوبُ تضىء فى أرجائِــه
وتزُف شعبًا فى الصمــودِ تفانـى ؟!
أين الرفاقُ وأين صيحاتٌ بدتْ
للكون ِ بعثـًا عاصفــــًا أحيانــا ؟!
أينَ الشبابُ وقد توحدَ نبضُهـــــم
وتجمعوا فى بأسهــم إخـوانـــا ؟!
أينَ الحناجُر كيف قامت صرخةً
كم أيقظتْ بصهيلها الفِـرْســانا ؟!
وجهُ الشهيدِ وقد تناثـَر فى المدى
وغدا نجومًا فى دُجى دُنيـــانــــــا
جسدٌ يحلقُ فى الأيادى سابحــًا
فى حضن ِ أمُ أًّشبعتـُه حنـانــــــا
هَانَتْ عَلَى الأَهْلِ ِ الكِرَامِ دمَانَا
***
نامتْ على الدربِ الحزينِ جوانحٌ
وتجمدتْ خلفَ الرُّؤَى أجفانـــا
والناسُ تسألُ : ما الذى يبقى لنـــــا
بعد الشهادة ِ موطنـًا ومكــــانــا ؟
يومًا غرسنا الحُلمَ فى أعماقنــــــا
حتى غدا فى يأسنا بُــــركانـــــا
أن نطلقَ الشمسَ السجينــــَة َ بيننا
ليُطِلَّ صبحٌ من خريفِ صبانـــــــا
فى ساحةِ الميـــدان كنا أمــــــــة ً
وهبتْ رحيقَ شبابها قـُربــــانـــا
أجسادُنا كانت تلـــوذ ُ ببعضهــــا
حزنُ الترابِ يعانـــــقُ الأكفــانـــا
يتعانقُ الدمُ الجسورُ على الثرى
كنا نراه كنيســــــــــة ً وأذانــــــــا
فى ساحةِ الميدان صلـَّيْنا معــــًـا
قمنا حشودًا نرجمُ الشيطانـا
وتطوفُ فى الميدان أرواحٌ بــــدتْ
فوق البيـوتِ أزاهرًا وجـِنــانــــا
الكونُ صّلى .. والربوعُ تطهــــــــرتْ
من رجس ِ عهدٍ مُظـْلِــم ٍ أعمانـــا
هَانَتْ عَلَى الأَهْلِ ِ الكِرَامِ دمَانَا
***
هل تذكرون َ دموعنا ودمـــــــانــــا
الركبُ ضلَّ .. فمنْ يعيدُ خـُطانا ؟!
الموتُ لم يهزمْ جســــارةَ عمرنـــــــا
لكنَّ ظلمَ الأهـــــــل ِ قد أشقانـا
حتى الأماكــنُ هاجـــرتْ من حُلمهـــا
وتبدلــت أشواقــُهـــــا هِجَرانــا
فى كل ذكرى سوف نرفعُ رأسَنــــــَا
لنرىَ المفــارقَ كلهــا مَيْدانــا
فإذا غفا يومًا وشـــــــاخَ شبابُـــــــــه
أو عاد يشكو العجزَ والنسيـانا
وأفاقَ فى صخبِ الجموع ِ وقد رأى
فرعونَ آخــرَ يجمعُ الكهــانـَا
سُيطِلُّ من صمتِ الحناجر يمتطـــى
زمنَ الإِباءِ .. ويعلــنُ العصيـــانـا
ويعود يحكى عن شبابٍ ثائــــــــر ٍ
وهبَ الحيــاة لشعبــنــا وتَفـَانـَــى
كانوا رجالا ً فى الخطوب وأنجمًا
كالبرق ِ لاحت فى ظلام ِ سَمَــانا
كانوا دعاءَ الأمُّ .. فرحة َ عيدِهــــــا
ونقاءَ أرض ٍ أنجبـتْ فِـرسانــا
فإذا خـَبتْ فى ليلكم ذكـْرانـــــــــــا
وغدا الشبابُ مُحاصرًا .. ومُهانـا
لا تسألوا كيف الرفاقُ تفرقــــــوا
ولتسألوا: من فى الضمائر خــانا ؟
عودوا إلى الميدانِ.. قوموا فتشوا
عن عاشق ٍ فى حُبه كـــم عانــى
هو لم يكن جيلا ً طريدًا ضائعـــًا
بل كان شمسَا أيقظــــــتْ أَوطانـا
من قامَ يومًا يرفضُ الطغيــــانــا
لا..لن يكـونَ منافقــــًا وجَبــَـــانـا