تؤكد مصر بمكانتها الحضارية والجغرافية على مر التاريخ، دورها كهمزة وصل بين الحضارات والقارات والشعوب، ويأتي انعقاد القمة العربية الأوروبية التي يفتتحها الرئيس عبد الفتاح السيسي، ، بمدينة شرم الشيخ، خير دليل على ذلك، وهي أول قمة على مستوى القادة بين جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي، بحضور رؤساء دول وحكومات ووزراء خارجية خمسين من هذه الدول، لبحث سبل تعزيز التعاون لمواجهة التحديات المشتركة في مختلف المجالات.
ورغم أن تاريخ العلاقات بين العرب وأوروبا شهد الكثير من الصراعات والحروب، إلا أنها لم تقف حاجزا دون التلاقح الفكري و الثقافي الذي كان حاضرا بقوة في مختلف المراحل التاريخية، وكانت مصر سباقة للعطاء على مر الحضارات الفرعونية والإغريقية والرومانية والمسيحية والإسلامية وحتى الآن، حيث تتبلور منظومة ثقافية عربية أوروبية جديدة أقرب إلى التعاون منها إلى التصارع أو التضاد.
فبعد قرون عديدة من العداء والشد والجذب والتوجس، وخوف كل منهما من التغريب والتعريب، يسعى الجانبان حاليا إلى التأثير والتأثر بمختلف ثقافات وفنون الجانب الآخر، مع الحفاظ على القيم والتقاليد الخاصة بكل طرف.
وظهرت في الأوساط الثقافية عقول متفتحة في الجانبين، تشجع قيم "الحريات والإبداع والديمقراطية وحقوق الإنسان" التي يطبقها الغرب، ومعهم مستشرقون ومفكرون أوروبيون يرون في "الإسلام المعتدل، الذي يمثله الأزهر الشريف، ويعتنقه أغلب العرب، دينا عالميا يدعو للسلام والتسامح واحترام الآخر.
ويعد عام الثقافة المصرية الفرنسية (2019) نموذجا للتقارب الثقافى العربي الأوروبى، وهو العام الذى أطلقه الرئيس عبدالفتاح السيسي ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، في أكتوبر 2017، خلال القمّة الثنائية في الإليزيه.
وانطلقت الفعاليات في يناير الماضى بعروض «بحيرة البجع، كرنڤال في ڤينيسيا، دون كيشوت، واستعراض من تصميم جريجوري جييار، ريموندا، ديان وأكتيون، سبارتاكوس». واعلنت الدكتورة إيناس عبدالدايم وزير الثقافة، أن الفعاليات تمتد طوال العام وتشمل ملتقيات تبادلية في شتى مجالات الفنون والآداب تبرز أشكالا من الملامح الثقافية للبلدين. وقال وستيفان روماتيه سفير فرنسا بالقاهرة" إن ٢٠١٩ عام خاص حيث يمر ١٥٠ عاما على افتتاح قناة السويس، ورأينا أنه يتوجب علينا الاحتفال به»، مؤكدًا أن العام يشهد العديد من الفعاليات في فرنسا ومصر ومنها معرض كبير للغاية عن كنوز توت عنخ آمون يقام في مارس المقبل بالعاصمة الفرنسية باريس.
وتم بالتعاون مع وزارة الثقافة والمعهد الفرنسي في مصر، وضع عدد من الفعاليات الثقافية في برنامج ثري للغاية، وستسمح تلك الفعاليات بلقاءات بين الجانبين تغطي مجالات الموسيقى والأدب والفنون الأخرى، ويصاحب هذا العام عودة السياحة الفرنسية بشكل ملحوظ بعد التغيرات التي شهدتها مصر منذ ٢٠١١ وحتى الآن، حيث يشهد هذا العام زيادة أعداد السائحين الفرنسيين في مصر.
ويدعو المثقفون لإعادة إحياء مشروع نقل الفكر المصري إلى الخارج، الذي أنجز أكثر من 400 كتاب مصري مترجم إلى اللغات الأجنبية الأخرى، وكانت اللغة الفرنسية على رأس الترجمات التي انحسرت في مجالات من الأدب والمسرح والقصة والفكر الفلسفي والسياسي.
ولعل عام الثقافة المصرية الفرنسية فرصة لاستغلال وجود وزيرة الثقافة الفرنسية السابقة أوديه أزولاي على مقعد مدير عام منظمة اليونسكو، والتى رحبت مصر بفوزها أيما ترحيب، للحصول على دعم أكبر لحماية الآثار المصرية وتوثيق المدن الأثرية، والترويج للتراث والحضارة المصرية لجذب مزيد من السياح الفرنسيين العاشقين لها.
كما تم فتح باب المناقشة لحل أزمة المترجمين المصريين في فرنسا، لنقل الثقافة والفكر المصري إليها، وأيضا زيادة المنح التي تقدمها الحكومة الفرنسية في مصر، لتشمل مجالات أخرى بجانب الدراسات العليا، لتتوسع وتشمل المجال الفني والثقافي والنحت والمسرح والتكنيك السينمائي، وغيرها من المجالات للاستفادة من تجارب البلدين.
واذا كان المستقبل يحمل الكثير من البشائر لتعزيز العلاقات الثقافية بين العرب وأوروبا، لاسيما عبر مصر، فإنه من نافلة القول استرجاع التاريخ أيضا، الذى يؤسس للحاضر والمستقبل، ولاسيما في العصور الوسطى، حيث كانت الحضارة العربية تزهو بتفوقها في مختلف العلوم والثقافات، بينما كانت أوروبا تغط في سبات عميق.
وبدأ الأوربيون الذين كانوا يعيشون في عصور مظلمة، يهتمون بثقافة العرب وعلومهم منذ منتصف القرون الوسطى، وأهم ما لجأوا إليه، هو تعلم اللغة العربية، والتردد على مدارس المسلمين بالأندلس لأخذ العلم من شيوخها، وترجمة المعارف العربية الإسلامية من اللغة العربية إلى مختلف اللغات الأوربية. ظفهم الحكام الإفرنج، بدور فعال في نقل علوم العرب إلى البلدان الأوربية.
وكانت من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تطوير الفكر الأوربي، خاصة في الفلسفة والأدب، ونقل خصائص الشعر العربي من موضوعات وأشكال، إلى الشعر الأوربي في بداية القرن الثاني عشر من الميلاد.
كما أثرت مساهمات المسلمين في أوروبا العصور الوسطى على مجالات الفن والعمارة والطب والصيدلة والزراعة والموسيقى واللغة والتكنولوجيا، من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر، ونهلت أوروبا المعرفة من الحضارة الإسلامية، عبر العديد من المراجع والوسائط المتاحة والمترجمة في ذلك الوقت.
وكانت نقاط التواصل بين أوروبا و الأراضي الإسلامية متعددة، فقد انتقلت المعارف الإسلامية بكثافة إلى أوروبا عن طريق صقلية والأندلس، وبالأخص في طليطلة (على يد جيراردو الكريموني بعد أن استولى الإسبان المسيحيون على المدينة عام 1085).
وفي صقلية، بعد ضم المسلمين الجزيرة عام 965، واستعادها النورمان مرة أخرى عام 1091، تولّدت ثقافة نورمانية عربية، التي رعاها حكام أمثال روجر الثاني ملك صقلية، الذي كان لديه جنود وشعراء وعلماء مسلمون في بلاطه.
ويعد كتاب (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) الذي كتبه العالم الجغرافي الإدريسي للملك روجر أحد أعظم المخطوطات الجغرافية في العصور الوسطى.
وكان للحملات الصليبية أيضًا دورها في تبادل المعرفة بين أوروبا وبلاد الشام، وبالأخص الجمهوريات البحرية التي لعبت دورها في هذا التبادل، حتى أن مدنًا كأنطاكية اختلطت فيها الثقافتين العربية واللاتينية بشدة.
وخلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر، رحل العديد من المسيحيين إلى الأراضي الإسلامية لطلب العلم، أمثال ليوناردو فيبوناتشي وأديلارد أوف باث وقسطنطين الإفريقي، و خلال القرون من الحادي عشر إلى الرابع عشر، توجه العديد من الطلاب الأوروبيين الدارسين في مراكز العلم الإسلامية لدراسة الطب والفلسفة والرياضيات والعلوم الأخرى.