كتبت العام الماضي مقالا استهللته بحكاية قديمة لصبي بحريني في الثالثة عشر من عمره وقد استيقظ قبل اخوته صباحا على طرق على الباب ، كان الزمان يوم جمعة من أيام السبعينيات والهدوء يعم ارجاء البيت والكل نيام ،فتح الباب فاذا الطارق جارتهم تحمل طبق خبيصة ساخن وشهي ومغري ،استغل الصبي غياب اخوته فأكل ربع الطبق ، ثم تذكر انهم جميعا نيام فاكل نصفه الثاني ، تفقد غرفهم مجددا وتأكد من نومهم فالتهم الربع الثالث ثم ايقن انه سوف يحاسب على فعلته ،وكيف انه سيتعرض للتقريع والتعييرو الاتهام بالأنانية والسرقة التي ستبقى تلاحقه طوال عمره في حالة اكتشاف امره فالتهم الطبق كله وخرج من البيت سريعا،في الطريق تذكر الصحن الخالي فعاد الى البيت وغسله وارجعه الى الجارة التي رمقته بابتسامة لم يفطن اليها الا بعد حين ،اذ ليس من طقوس التهادي بين الجيران ترجيع الطبق خاليا في التقاليد البحرينية المعتادة
درسان مهمان في هذه الحكاية الطفولية ، الأولى : ان لا جريمة دون ادلة حتى وان بدت بريئة وصغيرة ومخفية ، والثاني ان اغلب الفاسدين يقولون : نحن أصحاب الحظ والحظوة الذين استيقظنا قبل غيرنا ، والأولى بطبق الخبيصة من غيرنا
قبل فترة اطلعت على تقرير محاسبي اعده خبير منتدب من المحكمة الكبرى المدنية للفصل بين عدد من الشركاء المدعين في احدى مؤسسات القطاع الخاص في بلدنا، ذهب الشركاء الى المحكمة عمياني وليس بحوزتهم سوى عدد قليل من الأدلة ونسبة عالية من الشكوك حول أداء المؤسسة ومدى صدق مجلس ادارتها وادعاءاتهم المتكررة على مدى سنوات طويلة حول الخسائر وانعدام الربحية وتصاعد الديون وملامسة شفا الإفلاس، وكان السؤال البديهي الذي يطرحه أي طفل مبتدأ في درس التجارة هو: كيف لمؤسسة تخسر طوال هذه السنوات وتبقى صامدة ؟
ومعلوم ان الفساد لكي ينجح ويحقق أهدافه في أي مؤسسة او شركة خاصة او عامة فيلزم توافرعدة عوامل أولها : تحويل المكان الى مزرعة خاصة لا تضم الا الاهل والمقربين وحفنة من المستفيدين للإبقاء على درجة عالية من السرية ، ثانيا الاعتماد على مدقق داخلي امين على الفساد وخارجي يوقع على البيانات المالية دون نقاش او مساءلة او تمحيص كي يضمن التجديد له عاما بعد عام ،ثالثا : التخطيط المسبق لنهب المؤسسة منذ اليوم الأول لتأسيسها بالتدريج اعتمادا على غفلة او نوم الشركاء او خوفهم او سكوتهم او التواطؤ مع بعضهم عبر التهام اقسامها المربحة وتركها تعتاش على فتات ما يرد اليها من نسب وحصص عبر اتفاقات مجحفة مغفلة عن الشركاء على طريقة حكاية خبيصة الفساد السالفة الذكر ، ففي الفساد ثمة عيون نائمة او نصف مفتحة او متواطئة ، رابعا : الدخول في أنشطة خارج نطاق اهداف المؤسسة وتمويل هذه الأنشطة بالسيولة المتوفرة واغفال تسجيل هذه المبالغ او ادراجها ضمن الديون المعدومة ، إخفاء كل المعلومات المهمة عن الشركاء والاستعاضة عن ذلك بالكذب والتمويه والتضليل ، الامعان في كتابة تقارير مالية لا تتضمن أي تفاصيل ، ذلك ان الفساد يكمن في التفاصيل ، ابعاد أي فضولي او ملسون او مشكك او متساءل عن عضوية مجالس اداراتها والتضييق عليه وإقامة الاجتماعات دون علمه ، وغيرها من أسباب
والواقع ان ما سردته من أسباب يكاد يكون عاملا مشتركا في اغلب المؤسسات والشركات المتجذرة في الفساد ، عامة كانت او خاصة او مشتركة بين العام والخاص ، وهكذا ما ان يبدأ صفير الفساد في هذه المؤسسة او تلك ، ويصبح الهمس الخافت عالي النبرة ،وتتردد في الاصداء بعض تفاصيل ما يجري خلف الكواليس من تهديد بالتبليغ او الشكوى الى المحاكم او لدى الأجهزة المختصة او الصحافة او عبر تغريدات المغردين على وسائل التواصل الاجتماعي ،ما ان يحدث ذلك حتى يتحسس فرسان الفساد رؤوسهم محاولين انجاز اخر الصفقات المربحة والهرب او الاختفاء ، ذلك ان وسم انسان بالفساد او الارتشاء اعتمادا على استغلال منصبه او نفوذه تظل تلاحق المرء طوال عمره ، وان نجى المرء منها اعتمادا على زمن الوفرة المالية والتساهل مع الفساد فقد لا يخدمه الزمن في وقت تراجع وانحسار المال وتوسل كل الطرق لإعادة ما نهب وما تسبب فيه الفساد من دمار شامل على الجميع ، فهل ثمة مخرج لتفادي الفساد ؟ ،نعم ، توجد مخارج عديدة ، واولها سرد وكشف حكايات الفساد وفضح اسراره والنكبات التي تحل على المجتمع من استمراره ومن التساهل معه قانونيا وقضائيا وصحافيا ومجتمعيا ، انها صرخة لحفظ مجتمعاتنا من الأذى وتطهير ساحاتها من المفسدين المعرقلين للتنمية والاستدامة المالية قبل فوات الأوان .