قال تعالى في محكم التنزيل «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر، كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ، فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ، أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ، سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ»، سورة القمر الآيات 22، 23، 24، 25، 26.
من المسلكيات الخاطئة التي حذرنا منها ديننا الإسلامي الحنيف، الكذب، وقد أثبتت حوادث وصروف الزمان آثار الكذب على الأفراد والجماعات والأوطان والأمة، وأخطر ما في الكذب التمادي فيه ولذلك وصف الكذاب بالأشر، وهي صفة تحمل كل معاني السوء والرذيلة، خدعونا في زمن مضى بأن «الآخرين» لا يكذبون ويتحرون الصدق في أقوالهم وأفعالهم، وإذا بنا نفاجأ بأن معظم مآسينا السابقة والحاضرة وربما المستقبلية هم فيها زعماء للكذب.
كان العرب يقولون: «حبل الكذب قصير» إذ سرعان ما تكشف الأحداث هذا الكذب وتتضح الحقيقية جلية ناصعة.
رحم الله المربي الأستاذ يعقوب بن عيسى بوحجي سكرتير مدرسة البديع الابتدائية للبنين ومن ثم مديراً لهذه المدرسة طيب الله ثراه، فهو ابن البديع عاش فيها وتعلم في مدرستها وأصبح مسؤولاً عنها، كان يحثنا على الصدق في القول والعمل ونحن لازلنا في الابتدائي، وكانت جدران المدرسة وقتها تزين بعبارات ذات مغزى وبخط جميل فيها الحكمة والنصيحة والحث على الأخلاق، وكانت إحدى العبارات المكتوبة والتي لا تخطئها أعيننا ونحن في طابور الصباح عبارة تقول «الصدق منجٍ» وظلت هذه العبارة راسخة في ذهني، وصادف يوماً أن جاءت أسراب الجراد إلى المنطقة الغربية والشمالية من البحرين، حيث المزارع التي تنتشر في ساحات هذه المناطق بالإضافة إلى البر وبما فيه من إخضرار بعد نزول المطر، فتجمع أهالي البديع واختاروا بعد غروب الشمس وعندما يحل الظلام مداهمة أسراب الجراد الذي عادة يخلد إلى الراحة في الليل ويجد له مكاناً آمناً للراحة فيه، وحمل الرجال ونحن معهم للمساعدة أكياس من الخيش ليوضع الجراد في داخله ويحمل وهو حي بغرض طبعاً أكله أما بطريقة «الفوح» أي تنقيعه في الماء المغلي أو الشواء وكان الصيد يومها وفيراً وقضينا الليل بطوله بحثاً عن الجراد المستكين ورجعنا إلى منازلنا في وقت متأخر، وألتمسنا لأنفسنا عذراً بالتغيب عن المدرسة ليوم واحد.
ولما جئنا في اليوم التالي قام الأستاذ المربي يعقوب بوحجي يرحمه الله في طابور الصباح باستدعائنا واحداً واحداً أمام طابور الصباح مؤنباً لنا عن غياب ذلك اليوم وأسباب الغياب لنأخذ نصيبنا من العقاب، فسأل من كان قبلي وكل واحد التمس له عذراً ولم يكن الأستاذ يعقوب مقتنعاً يرحمه الله بالجواب فنال كل واحد منهم نصيبه، ولما جاء دوري قال لي: «وأنت ما هو عذرك؟»، فتذكرت العبارة «الصدق منجٍ» فقلت للأستاذ يعقوب «بكل صراحة الليلة قبل الماضية ذهبنا نصطاد الجراد في البر وما عدنا إلى بيوتنا إلا منتصف الليل ولم استطع الحضور إلى المدرسة صباح أمس»، وكان يرحمه الله مدركاً لذلك تماماً وكوني كنت صادقاً فقد عفى عني ولم أنل نصيبي من العقاب، وقال لطابور الصباح: «هذا الطالب قال الحقيقة فعفونا عنه». فقد أنقذتني فعلاً العبارة المكتوبة على جدار المدرسة، ومن هنا أدركت قيمة وأهمية كتابة عبارات على جدران المدرسة، فالطالب يراها ويقرؤها يومياً فترسخ في ذاكرته وقد تكون سلوكاً له في مستقبل أيامه.
لازالت هذه الحادثة ترن في ذاكرتي وعندما أجد هذا الكم من الكذب السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والإعلامي أقول في خاطري كم هو جميل الصدق أو ما يسمى في عرفنا الحاضر بالمكاشفة والمصارحة والشفافية والموضوعية فعن هذا الطريق نتجنب الكثير من الويلات والمآسي والخسائر... طبعاً قد يقول قائل هناك الكذب الأبيض، وهو قد يكون بغرض إصلاح ذات البين، أو تجنب الخصام وغير ذلك من النوايا الصادقة، وهذا طبعاً لا غبار عليه إن كان الهدف منه نبيلاً. لكننا في هذا الزمن أصبحنا عرضة للإشاعات المغرضة الهادفة إلى الهدم لا البناء، هدفها زرع الفتنة والبغضاء والشحناء تفننت فيها دول، ومنظمات وفضائيات وأفراد لا تريد لأمتنا خيراً ولا تريد لشعوبنا الأمن والاستقرار والدعة، انفقوا المليارات لتجنيد قوى الشر من أجل زعزعة ثوابتنا الوطنية والقومية وإضعاف قوانا الكامنة فينا، ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يمكن وصفها بما يبثون فيها من سموم «بوسائل التمزق الاجتماعي» لعبت دوراً خبيثاً بما فيها من كذب صراح وفبركة بالقول والصورة، ومررواً من خلال ذلك بكل أنواع الفرقة والتمزق والكراهية وأساليب الإرهاب المتنوعة، وقانا الله شرهم وكيدهم، وعلينا أن نبذل الجهود الكبيرة لتفويت كل ذلك عليهم بالتوعية وبث رسائل مضادة من خلال الوسائل الحديثة والوسائل التقليدية، وتوعية شبابنا وعقلاء القوم منا ممن يجيدون التخاطب باللغة والأدوات التي يتعامل بها هؤلاء.
إننا أمة تنشد الخير لشعوبها، وتسعى للبناء لا الهدم، وتبذل الجهود من أجل تحقيق التنمية المستدامة في عصر تجاذبت فيه متغيرات وتبدلات لم يألفها من سبقنا ولم نألفها في بداية حياتنا.
وإن المؤشرات تشي بأننا مقبلون على متغيرات كثيرة، وما لم نعِ دورنا ومسؤولياتنا ونستعد بكل ما نملك من قيم وإرادات صادقة وإحساس جماعي بضرورة تكاتفنا وتلاحمنا المجتمعي والسياسي والإقتصادي والثقافي فإن المخاطر ستكون قريبة من ساحتنا وعلينا أولاً وأخيراً تحري الصدق في أقوالنا وأفعالنا، وتعرية كل أنواع الكذب المصدر إلينا من الخارج.