اذا كانت الثورة الصناعية قد حوَلت الانسان الى آلة ، فإن عصر المعلوماتية والانترنت و الحواسيب والتلفزيون والاعمال المكتبية مرافقة الهاتف النقال ليل نهار قد حولته الى "كرسي" وتصنف منظمة الصحة العالمية التدخين ومرض الكرسي في نفس الخانة ، وترى ان اضرار الثاني لا تقل وطأة وخطورة عن الأول ، ولم يكن الكرسي قريبا من ذلك الانسان البدائي الذي امتهن الصيد او الزراعة ونجى من كل امراض امراض الكرسي التي لا تعد ولا تحصى في زمننا هذا ، في فيلم شارلي شابلن الشهير " أضواء المدينة " نرى الى العامل وقد تحول الى آلة ميكانيكية ،وها نحن نرى انسان المكاتب العصرية يتخذ جسمه شكل الكرسي الجالس عليه لساعات طويلة .
وضعية الكرسي هي الاطول في حياة الانسان العصري قياسا بالمشي او الوقوف او الاستلقاء ، ويقرر المختصون ان اكبر ثقل يقع على الظهر حين يكون جالسا ، ويورث الجلوس الطويل على الكراسي الامراض العديدة ، ولذا تتفنن شركات الاثاث في صناعة ما تسميه الكراسي المريحة او المقاعد الصحية او المناسبة في مكاتب العمل والسيارات والبيوت وغيرها ، الا ان كل تلك الكراسي رغم حسن تصنيعها وجودتها وارتفاع اسعارها لا تمنع مستخدميها من تحمل اعباء الجلوس الطويل ومن اصابة اصحابها بامراض السمنة والظهر وتصلب الفقرات وتآكل العنق ، فليست العبرة بجودة الكرسي وتلبيته للشروط الصحية ، انما بعدد ساعات الجلوس التي يستسهلها الكثير منا فيغرقون في العمل وينسون انفسهم على الكراسي ، من يتصور ان شابا او شابة صغيرة تصاب بمرض الديسك في بواكير عمرها ؟ هذه الكراسي وهذه الوضعية لم يعرفها الانسان القديم ولم يعرف امراضها،ولقد تقلصت كثير من الانشطة التي يمارسها الانسان كالمشي والزراعة والفلاحة والصيد وغيرها من الانشطة الميدانية وحل محلها العمل الآلي والمهني المعتمد على الجلوس الطويل، كنت في احدى عيادات العلاج الطبيعي مؤخرا حين التقيت شابة صغيرة في العشرين من عمرها وقد تم احضارها الى العيادة على كرسي متحرك على وجه السرعة وقد تصلبت اعضاءها وظهرها ورقبتها واخذت شكل الكرسي تماما ! ويقول الطبيب المعالج ان مثل هذه الحالات صارت متكررة جدا في عيادتنا .
قبل عدة ايام وصل الى حسابي على الواتس اب فيديو ضمن حوارات تيد العالمية ويتحدث فيه بشكل علمي عن الاضرار المترتبة على الجلوس الطويل واصفا إياه بأنه مرض العصر بامتياز ، وينصح خبراء العلاج الطبيعي بوضع منبهات على اجهزة الهواتف والكمبيوترات والكراسي والطاولات وساعات اليد للتنبيه وللمسارعة الى النهوض والتحرك فورا ومغادرة الكرسي كل 15 او 20 دقيقة .
هل نتحدث عن مساوئ الجلوس الطويل على الكرسي دون ان نعرج على المرض العربي القديم والمتجذر والناجم عن الجلوس طويلا على كرسي الحكم وكرسي الوظيفة وكرسي الوزارة وكرسي الحزب وما ما اورثته هذه الديمومة من مآس سياسية واقتصادية واجتماعية.
حسب الفيلسوف الهندي كريشنا مارتي "فإن الرغبة في الابدية والتمسك بها هي سبب كل مآسي البشر وليس العرب وحدهم "
فنحن نريد ابدية في مناصبنا وبقاء ابديا على كراسينا،ونطمح في ابدية في علاقاتنا وابدية في تجارتنا ونعيمنا،نريد الابدية في كل شي وفي اي مهنة وفي اي مكان نحل فيه،فإذا لم تتحقق هذه الابدية التي هي من صفات الالهة وليس معقودة للبشر غادرتنا السعادة وفقدنا الامل وتمترسنا خلف حلم العودة الى الكرسي الضائع "
ان الصحة والنشاط الذهني والجسدي وحيوية التفاعل وتجدد الحياة وتحفيز الابداع لا تتحقق في الجلوس طويلا على الكراسي، الكراسي المديدة مرض يجدر بنا ان نعيه ونتخلص منه عبر الانقلاب على كل أنماط وفلسفة حياتنا العربية الراهنة .