تحدث الأزمات وتتوالى متسارعة من كل اتجاه في زمن يفتقد فيه الأمان والطمأنينة، لكن تبقى أساليب إدارة الأزمات وطرق معالجة تداعياتها هي المحك الأساسي والتمايز في قيادة الدول، ذلك أن مواجهة المواقف والأزمات تتطلب رؤية واضحة وأهدافا محددة، فضلا عن الحكمة والشجاعة في مواجهة الأحداث.
لا يتابع الكثيرون الشأن العام لنيوزيلندا بحكم ما تنعم به من استقرار وما تتميز به من بُعد عن التدخل في شؤون الآخرين، وقد يكتفى البعض منا بالمعلومات السياحية عن هذا البلد الآمن الراقي، لكن نيوزيلندا الآن في صورتنا الذهنية ليست هي نفسها قبل الحادث الإرهابي في مسجدي مدينة كرايستشيرش.
هبت نيوزيلندا جميعها بحرفية شديدة جمعت فيها بين الإدارة الحقيقية والقيادة الاحترافية بالتعامل المنهجي مع الأزمات فكسبت في أيام قليلة احترام شعوب العالم وتقديرهم، وليس العالم العربي والإسلامي فقط، وهنا تكمن أهم أركان وعناصر القوة الناعمة بسرعة التحرك ومواجهة الموقف وإدارة الأزمة وتحجيم مفاعيلها. عندما أطلق جوزف ناي – أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد – مفهوم القوة الناعمة وعرّفه بأنه كسب العقول والقلوب والإعجاب ببلد وأن تحذو الدول حذوه وتتطلع إلى مستواه وأن القيادة ليست مجرد إصدار أوامر بل تنطوي على تحقيق القدوة وجذب الآخرين، وهذا هو الدور الذي قامت به نيوزيلندا؛ حكومة وشعبا، وترجمته عمليا فضربت أروع الأمثلة في تقديم نفسها دولة تتميز بالقوة الناعمة، وهي قوة النموذج المتفرد في التعايش السلمي وروعة المثال الجاذب في إدارة الأزمات.
عملت الدولة، وعلى رأسها رئيسة الوزراء جاسيندا أردرن، منذ اللحظة الأولى، وبشكل متوازن، على الحفاظ على النسيج الاجتماعي الداخلي للدولة، ونجحت في تقديم صورة مبهرة للدولة في العالم الخارجي، وكانت مثالا حيا للقوة الناعمة الضاربة التي جذبت الدعم والاحترام لأسلوب إدارة الأزمة والتعامل مع تداعياتها ومعالجة آثارها.
لقد أعطت نيوزيلندا دروسا لدول العالم بأن أثمن ما تملكه الدول هو الاستقرار الداخلي، وأن المواطن هو رأس المال الحقيقي الذي يعلي من شأن وطنه، وأن السلم والسلام الداخلي والخارجي أهم مصادر رفعة الدولة وأساس نهضتها وتطورها.
لقد كسبت نيوزيلندا القلوب والعقول وكسبت الاحترام والتقدير من قبل الآخرين لقيادتها الأزمة ومعالجة آثارها، فشكرا نيوزيلندا.. ستظل مشاهد الجريمة المروعة من ذاك الإرهابي المجرم ماثلة في أذهان المسلمين، فلا يمكن نسيان قتل المسلمين الآمنين في بيوت الله، ولا يمكن أن ننسى دور نيوزيلندا في تخفيف آلامنا بأسلوب ومنهجية أقل ما يمكن وصفه بأنه احترام لإنسانية الإنسان ونبذ العنف والتطرف ومحاربة الإرهاب.