أن تُقلك الطائرة في يوم من أيام شهر رمضان الفضيل فأنت أمام خيار الفطر كونك مسافرًا، ورخصة السفر تجعل لك فرصة عدة من أيام أُخر، وإن كان البعض يُفضل -طالما أن ليس في السفر مشقة- الاستمرار في الصوم رغم الرخصة الشرعية المجوزة للفطر في السفر، وحكمة الشريعة في ذلك السماحة واليُسر والإنسان يملك إرادته، ورحم الله أستاذنا وشيخنا مدرس الشريعة الإسلامية في جامعة الكويت في السبعينات الدكتور الشيخ أحمد الغندور عندما كان يردد على مسامعنا وهو الشيخ الأزهري: «استفتِ قلبك ولو أفتاك الناس».
والرخص في الصوم مشروعة لقوله تعالى في مُحكم التنزيل: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ، فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ، فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ، وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ، إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، شهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ، فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) سورة البقرة الآيات 183، 184، 185.
خلاصة القول إنه صادف يوم سفري 8 رمضان 1440 هـ الموافق 13 مايو 2019 في طريقي إلى القاهرة أن كانت إلى جوارنا سيدة من سيدات مجتمعنا العربي من مصر الشقيقة، ممّن آثرت أن تواصل صومها وإن كانت على سفر، وانتظرت طبعًا موعد الإفطار حسب توقيت القاهرة وإن كانت صائمة حسب توقيت الخليج العربي، وعندما أعلن الطيار ميقات أذان المغرب قامت السيدة أم أحمد، وهذا ما كانت تفتخر به عندما سألتها عن اسمها كونها لمست شعورًا إنسانيًا رمضانيًا روحيًا ودينيًا اعتدنا عليه واعتاد عليه أجدادنا وآباؤنا في كل أقطارنا العربية، قامت أم أحمد وأخذت حقيبتها اليدوية وأخرجت منها فردات التمر المعبأة بأكياس صغيرة من البلاستيك وأخذت توزعه علينا بنفسها دون مساعدة المضيفات اللاتي لا يملكن التمر على متن الطائرة وقدمن الوجبات من دون التمر، فقلت لها: «يا أم أحمد، لقد أضفتِ لفطورنا اليوم معنى مختلفًا»، فبالفعل هذه المرأة العربية المصرية أبت إلا أن نبدأ فطورنا بالسُنة النبوية، وهي الإفطار بالتمر والماء أو اللبن، ووجدت على محياها الشعور بالسعادة والفرح كونها أسهمت في إفطارنا، ولها من الله سبحانه وتعالى الأجر والعافية.
إن هذه الظواهر الرمضانية نشاهدها في هذه الأيام في أقطارنا العربية، فهناك من يقدم وجبات الإفطار في الشوارع على المارة وراكبي الحافلات، وهناك من أعدّ الموائد الرمضانية في الطرقات والحواري والمجالس، وهناك من خصص في بيته مجلسًا يستضيف فيه الضيوف يوميًا لتناول الإفطار، وهناك الجوامع والمساجد من هيأوا أنفسهم لإفطار أعداد كبيرة من صدقات أهل الخير ومن مبادرة «إفطار صائم»، وهناك أسر -والحمد لله- تتبرع من مالها وجهدها لإعداد وجبات للصائمين يوميًا وبأعداد كبيرة طوال شهر رمضان وفي أيام الجمع من الأيام العادية، وهناك أسر متعففة تستفيد أيضًا من أعمال الخير والبر للناس في بلادي، جزاهم الله خيرًا وإن شاء الله في ميزان حسناتهم.
إن أعمال الخير لا حدود لها، والمؤسسات والهيئات الخيرية -ولله الحمد- في بلادنا تنوعت اختصاصاتها ومشاريعها بما يعود على الكثير بالخير العميم، ولعل المؤسسة الخيرية الملكية في مملكة البحرين مثال طيّب لأنواع الخير التي لا تُعد ولا تُحصى في الداخل والخارج، وعلى مدى العام.
إن أعمال البر والإحسان هي من طبيعة مجتمعاتنا، وهي قيم أصلها ورسخها ديننا الإسلامي الحنيف، وإذا كانت الأمور تزداد وضوحًا خلال شهر رمضان المبارك فإنه شهر الخير والبركات، ومن حكم الصوم هو الشعور الإنساني بضرورة مساعدة المحتاجين، ولعل الجوع هو مؤشر على حاجة الإنسان لأخيه الإنسان، والأبعد من ذلك هو الشعور الجماعي بالتكاتف والتلاحم والتآزر ومد يد العون لكل محتاج.
كان مجلس المغفور له بإذن الله تعالى مختار قرية البديع السيد إبراهيم بن عبداللطيف الودعاني الدوسري مفتوحًا يوميًا طوال شهر رمضان، ليتناول رجال البديع الفطور الجماعي إحساسًا من أهالي البديع بأنهم أسرة واحدة، فلقاؤهم اليومي على مائدة الرحمن تُشعرهم أكثر بالقرب من بعضهم بعضًا، وتكون فرصة للقاء وتبادل الآراء ومناقشة القضايا المجتمعية التي تتعلق بهم.
سنظل بحاجة إلى مساعدة بعضنا بعضًا والمشاريع الإنسانية التي تقوم بها دولنا ويقوم بها أهل الخير في بلادنا يتم إيصالها لمحتاجيها دون منّة، والمطلوب هو أن يكون وصول تلك المساعدات بيسر وسهولة وتذليل العقبات والصعاب التي لجأ إليها البعض للمتاجرة بحاجات الناس، ولو وصلت هذه المساعدات الإنسانية لمستحقيها بالسرعة المطلوبة لما احتجنا إلى منظمات تنظّر علينا وتفرض أجنداتها ذات الأبعاد المختلفة عن روح التعاون والإيثار والبذل والعطاء.
وعلى الخير والمحبة نلتقي