اعتدت في كتاباتي أن أتحدث عن الحب في أغاني أم كلثوم أو عند الشعراء المصريين، ففي مصر تعلمنا لغة الحب الجميل والبسيط، الحب من أجل الحب، ولكنني اليوم سوف أعرج على العراق، هذا البلد الجميل الذي تتسم لهجة أهله بالحلاوة، وكذلك كلمات شعرائه الكبار، حيث تغنوا بالحب والجمال، ونحن في الخليج نعشق هذه اللهجة البسيطة وحبهم وأغاني عشقهم، ومن أشهر من تغنى بهذه الأغاني حضيري بوعزيز وناظم الغزالي وكثيرون غيرهم لا أستطيع حصرهم، ولكن سأورد بعضهم. ولدينا مطربهم الكبير كاظم الساهر الذي أصبح من عشاق الملايين، وفؤاد المهندس وفؤاد سالم.. فكلماتهم تشعرك بأصالة هذا البلد الذي يحبه الجميع وتدخل لهجة أهله القلوب دون مقدمات ونحس معها بنسائم لطيفة. للعراق وأهله محبة خاصة في قلبي، فهو بلد عروبي، شعبه عروبي.. كان لا بد من هذه المقدمة حتى نبتعد عن مناقشة الأمور السياسية في العراق ولنعد الى موضوعنا موضوع قصص الحب الرائعة التي مازالت تحتفظ بحبها من عشاقها.
وينسب العراقيون الى محمد عبدالوهاب نقلاً عن إحدى المقابلات الصحفية في الستينات، قوله إن معظم الأغاني العربية تدور في فلك الأغنية المصرية باستثناء الغناء العراقي؛ لما يتميز به من خصوصية كاملة نابعة من الروح والحنجرة والنغمة المرتبطة بالمكان بما يجعلها خارجة منه وليست آتية إليه من المحيط الجغرافي القريب أو البعيد. وتعود هذه الحقيقة الى أن المطرب العراقي لا يغني لأجل الغناء، وإنما يعبِّر عن حالته الحقيقية، وهو جزء من أسباب التفرد التاريخي في التعبير، ولهذا اتسم الغناء العراقي في الماضي بالتعبير عن الفرح أو الحزن والشجن، وكانت كلمات الأغاني نابعة من الحياة الصعبة، وعبّر الغناء وقتها عن طقس ما بروح الفرح أو الحزن. ولهذا يقول العراقيون إن مطربيهم في الماضي كانوا يعبّرون عن حالة حزن شديدة تماثل غناء فريد الأطرش الذي عبّر بأغانيه عن حالة اغتراب وشقيقته أسهمان ولم يستطع التخلص من حزنه طوال حياته الفنية، كذلك المطرب عبدالحليم حافظ الذي عبّر عن مرضه بأغانيه الحزينة. حتى أن ناظم الغزالي لم يتخلص من حالة الحزن في أغانيه رغم أناقته ولغته الموسيقية الحديثة ورحلاته العربية، إذ بقي وفيًا لحزنه تعبيرًا عن نشأته الصعبة في كنف أم كفيفة ومعاناة معيشية، ثم أصبح بلا أب وأم وهو لا يزال طفلاً، لتخرج أغانيه صورة طبق الأصل من حياته التي عانى فيها الحرمان والعزلة.
ويكفي عالم الغناء العراقي تميزه بفولكلوره الجميل الذي أخرج لنا رائعته «ميحانه ميحانه» التي تعبّر عن فن العراق الذهبي. للأغنية قصة شهيرة يحفظها العراقيون أو على الأقل أجيالهم الماضية، ونحن معهم بالتأكيد. فكلمات الأغنية مستوحاة من قصة حب حقيقية ومؤثرة من التراث العراقي، وكيف أحبت فتاة ريفية شابًا بالقرية لتظل وفية له بعد موته المفاجئ، لتحفظ الأجيال المتعاقبة قصة الحب الخالدة ذائعة الصيت في العراق والوطن العربي ويغنيها معظم مطربي العراق تقريبًا، وأشهرهم بطبيعة الحالي ناظم الغزالي وكاظم الساهر باعتبارها فولكلورًا عراقيًا خالصًا.
وتروي القصة باختصار أن شابًا من مدينة (المسيب) التي يشطرها نهر الفرات نصفين بين مدن بغداد وكربلاء والحلة، كان يملك قاربًا صغيرًا يجوب به النهر وينقل فيه الحيوانات والحبوب وغيرها. واعتاد الشاب في أثناء عمله الغناء بصوته الجميل وانبهر به السكان الذين كانوا ينتظرونه على ضفة النهر ليستمعوا إلى صوته ويستمتعوا به، وكان من ضمن معجبيه فتاة تعلق قلبها به فنشأت قصة حب شديدة بينهما وكانت تنتظره على شاطئ النهر قبل أن تغسل الأواني وتنقل المياه الى منزلها. وقد علمت بقصة الحب هذه صديقة الفتاة واسمها «ميحانه»، وبعد فترة من الزمن مات الشاب في حادثة مفاجئة، فحزنت حبيبته حزنًا شديدًا، وذات يوم ذهبت كعادتها لضفة النهر لتغسل الأواني وتملأ المياه قبل عودتها لمنزلها، فلمحت قارب حبيبها الذي كان قرب جسر المسيب التاريخي، فمرّ القارب دون غناء صاحبه ومن دون صوته الجميل الذي يأسر القلوب، فأحزنها المشهد الصامت لتطفو ذكرياتها وتلتفت الى صديقتها ميحانه وقد اقتربت الشمس من المغيب، وأنشدت الفتاة منادية صديقتها:
ميحانه ميحانه... ميحانه ميحانه
غابت الشمس وللحين ما جانه
حيك.. حيك بابه حيك.. ألف رحمة على بيك
هذوله العذبوني.. هذوله المرمروني
وعلى جسر المسيب سيبوني
عافت عيوني النوم.. عافت عيوني النوم
بعدك حبيبي العين ذبلانه
بلوح القدر مكتوب.. بلوح القدر مكتوب
بهجرك حبيبي الروح ضمآنه
ضليت انا سهران.. ضليت انا سهران
وارعى نجومي ليش ما جانه
واتسامر ويا الليل.. واتسامر ويا الليل
واجمع همومي وروحي تلفانه
خلى الدموع اتسيل.. خلى الدموع تسيل
من عيني دمه الروح ضمانه
واللي فديته الروح..
روحي ظلمه بسكَم خلاّنه
لقد تربى جيلنا ومن سبقنا على غناء المطرب العراقي ناظم الغزالي الذي صال وجال في عالم الغناء وأبدع في نقل قصائد الحب والهوى، وهو أيضًا من أشهر مطربي العرب في زمانه، فتمنى المطرب محمد عبدالوهاب التعاون معه والتلحين له ولكن لم تسمح الظروف بإتمام التعاون بينهما. وكما هو حاصل حاليًا مع كاظم الساهر سفير العراق للعرب جميعًا، كان الوضع ذاته مع الغزالي، إذ احتل لقب سفير الأغنية العراقية للعرب، لتظل أغانيه حاضرة في ذاكرة الأجيال تحكي زمن الفن الجميل كونها نبعت من بيئة ذات طبيعة شديدة الخصوصية، مثل «طالعة من بيت أبوها»، و«ما ريده الغلوبي»، و«أحبك»، و«فوق النخل فوق»، و«يم العيون السود». ويعزو النقاد نجاح أغنيات الغزالي في الوطن العربي إلى أنه أدى أغانيه بعذوبة شديدة وخرج بها عن الأصول المتبعة ليجعل منها أغنية سهلة التداول والحفظ. ومن أشهر أغاني الغزالي الذي اشتهر بإلقاء الموال (ميحانه ميحانه، عيّرتني بالشيب، يا أم العيون السود، ماجوزن أنا) وغيرها من الأغنيات التي حفظها الكبار والصغار عن ظهر قلب.. وننقل هنا كلمات أغنية «أم العيون السود»:
يام العيون السود ماجوزن أنا
خدك القيمر أنا أتريق منه
لابسه الفستان وقالت لي أنا
حلوه مشيتها دتمشي برهدنه
لو تحب خادم خادمها أنا
ولعوف الدوله وأعوف السلطنه
واقفه بالباب تصرخ يا لطيف
لأي مجنونه ولا عقلي خفيف
من ورا التنور تناوشني الرغيف
يا رغيف الحلوه يكفيني سنه
لون خمري لا سمار ولا بياض
مثل بدر تام واشرف ع الرياض
باللما تحي وتقتل باللحاظ
بغنج تحكي وترد بعنونه
طالعه بفستانها الوردي الجميل
وأنزوت حين اسفرت شمس الأصيل
غصن قدها من تهب نسمه يميل
حلوه مشيتها بتأني ورهدنه
اقحوانه ابتلت بقطر الندى
تبسمت بسمه طروبه وفاتنه
ويكتب للعراق والعراقيين أن ناظم الغزالي لم يكن مطربهم الوحيد الذي يتربع في قلوبهم، إذ سمح الوضع وقتها ليظهر أكثر من نجم في زمانه وسطعوا جميعهم في عالم الطرب والغناء، ومن بينهم حسن وحضيري بوعزيز وزهور حسين ومسعود العمارتلي، حتى جاءت حقبة السبعينات لتفرز أصواتًا جديدة مثل حسين نعمة وفؤاد سالم ورياض أحمد وقحطان العطار ومائدة نزهت وسعدون جابر وكمال محمد وأنوار عبدالوهاب وغيرهم، ويكتب لهذا الجيل الجديد تميزه بغناء لون جديد من الأغنية الراقية التي تعتمد على القصيدة الشعرية بعيدًا عن الشكل المعتاد وهو الموال، وقد أبدع في هذا اللون عريان السيد خلف وزامل سعيد فتاح وغيرهما الكثير، ويحضرنا هنا أغنية المطرب المبدع حسين نعمة الشهيرة «ما بيه أعوفن هلي» وتقول أبياتها:
هلي وياكم يلذ العيش ويطيب
نسايمكم تداوي الجرح ويطيب
هلي منكم تعلمت الوفا والطيب
هلي ياهل المضايف والدلال
ما بيه اعوفن هلي ولا بيه اعوف هواي
قلبي نسيته هنا ياهو اليدوره وياي
****
يالواعدتني ورحت لوين حد الصبر
محتار لا اني لهلي ولا يمك اقضي العمر
يا وسفه ضاع الوفى والود تبدل هجر
قلبي نسيته هنا يا هو اليدوره وياي
****
بس ولعونه ومشوا حق العرفناهم
تسعر ولا تنطفي نيران فرقاهم
ليله وهجرها القمر روحي بلياهم
قلبي نسيته هنا ياهو اليدوره وياي
يا هو اليدوره وياي
أما كاظم الساهر نجم العراق والعرب حاليًا، فهو الذي حلق بالأغنية العراقية في آفاق الشهرة التي تخطت حدود الوطن العربي، ليكون مع قصائد نزار قباني وعلى رأسها «في مدرسة الحب» ثنائيًا فنيًا غنائيًا مبدعًا عشقه العرب المحبين للفن والموسيقى وتمايلوا مع آهاته ونغماته، فهو عاشق للحب ولمس بأدائه قلوب العشاق، وكان خياله واسعًا ليداعب به أذان المحبين.
وإذا كان عالم الفن والغناء والعراقي يشتهر برجاله الكبار، فقد تميز أيضًا بمطربات عديدات وصارت أغانيهم حاليًا تراثًا كبيرًا يحتفظ به العراقيون، ومن بينهن صديقة الملاية صاحبة الصوت الرنان الذي يُعد من كنوز الغناء العراقي، زكية جورج التي امتلكت الرقة والجاذبية، زهور حسين ذات الصوت الرخيم، لميعة توفيق صاحبة الصوت القوي ريفي النكهة، مائدة نزهت صاحبة الصوت الجميل والحضور الطاغ.. وكما اخترنا المطرب ناظم الغزالي من بين أقرانه العراقيين لنتحدث عنه، فليس أشهر من بين المطربات العراقيات سوى سليمة مراد إحدى قمم الغناء العراقي منذ أواسط العقد الثاني من القرن المنصرم، إذ احتلت مكانة مرموقة ونالت شهرة فائقة في عالم الغناء، ولا تعد شهرتها نابعة من كونها زوجة ناظم الغزالي الذي غنى العديد من أغانيها القديمة، إلا أنها سبقته في الغناء حتى أن كوكب الشرق أم كلثوم أشادت بصوتها عندما زارت بغداد. ومن أشهر أغنياتها (خدري الجاي خدري، أيها الساقي إليك المشتكى، قلبك صخر جلموديا، نبعة الريحان، الهجر) وغيرها. كما اشتهرت سليمة مراد بسبب صيتها مطربة، فقد نالت من الفن حظًا وافرًا وصيتًا بعيدًا، فكانت كروانة الغناء عصرها.
من المؤكد أن الأغنية العراقية تاريخيًا قد تميزت بميزة مهمة جدًا، إذ تُعد علامة فارقة من علامات الحضارة العراقية القديمة وأحد أعمدتها، وبرزت منه الموسيقى التي تعرف بأنها «موسيقى الرافدين» أو «موسيقى بلاد ما بين النهرين»، ومنها الحضارة السومرية كإحدى علامات توضيح حبّ العراقيين للموسيقى والغناء، حتى إن شكل الحزن والشجن والأنين جزءًا كبيرًا من الأغنية قديمًا وكانت تلك الألوان غالبة على الأغنية وشبه ملازمًا لها، وكان يتطلب في حنجرة المطرب قديمًا القدرة على أداء المقامات الحزينة التي تجذب المستمعين ليتفاعلوا مع ما يؤديه من غناء. ولكن شكل الغناء والموسيقى تطور بصورة كبيرة في القرن العشرين، ليجذب الكثير من المطربين والملحنين الذين أضافوا للأغنية الكثير.